annonce

jeudi 2 février 2017

دروس في الفلسفة السنة الثانية باكلوريا (درس الحرية )



الحريــــة
مدخل :                                                                   
        تعني الحرية من الناحية المبدئية القدرة المطلقة على فعل ما يريده الفرد دون الإصطدام بما قد يمنعه من ذلك، الشيء الذي يجعل الحرية فعلا إراديا مناقضا لكل ضرورة أو حتمية تقيده..غير أن هذا التحديد النظري الذي يضفي على الحرية طابع الحق المطلق الذي يجب الحرص عليه ورفض كل ما يحد منه تعريف لا يستقيم مع ما يتسم به الواقع الإنساني من إكراهات متنوعة تحد من الحرية الفردية أو تعدمها كليا، إذ لا يمكن إنكار أهمية الحتميات المختلفة التي تجعل أفعالنا مرهونة بما تمارسه علينا قوانين الطبيعة وإشراطات المجتمع من ضغوط...فبدل أن تكون الحرية حقيقة بديهية كما يوحي بذلك التمثل المتداول، يتخذ معناها طابعا إشكاليا بحيث يقتضي التفكير فيه تحديد طبيعة العلاقة التي تربطه بمفاهيم الحتمية والإرادة والقانون.

المحور الأول :                   الحرية والحتمية

        إذا كان مفهوم الحتمية يدل على القوى أو العوامل التي تتحكم في الظواهر الطبيعية أو في السلوك البشري سواء كان مصدرها قوانين الطبيعة أو غرائز الجسد أو قيم المجتمع وتشريعاته، فكيف تتحدد حرية الإنسان في علاقتها بهذا المفهوم ؟ هل يمتلك الإنسان حرية مطلقة تنفلت من كل أشكال الحتمية ؟ أم أن حريته لا يمكن تصورها إلا في اندماجها مع الإكراهات الموضوعية طبيعية كانت أو اجتماعية ؟
          شغل التفكير في الحرية الإنسانية مساحة شاسعة في فضاء الفكر الفلسفي منذ نشأته مع مفكري اليونان القدماء الذين تناولوا هذا المفهوم في سياق سياسي يمثله التصور الأرسطي (حرية الأسياد مقابل العبيد..)، وأخلاقي عبرت عنه كل من المدرسة الأبيقورية (مبدأ البحث عن اللذة واجتناب الألم..) والرواقية (العيش وفقا للقانون الطبيعي..).                           
           وقد أثيرت مشكلة الحرية ،أيضا، في الفكر الإسلامي الوسيط بداية مع علماء الكلام الذين انشغلوا بتحديد طبيعة العلاقة بين الفعل الإنساني والإرادة الإلهية. وقد تراوحت مواقف الفرق الكلامية بين نفي مطلق لحرية الفعل الإنساني أمام الإرادة الإلهية المطلقة بصورة تنعدم معها مسؤولية الإنسان عن تصرفاته (الجبرية)، وإثبات قدرة الإنسان على اختيار أفعاله تأكيدا لمسؤوليته عنها في سياق نظرية العدل الإلهي (المعتزلة)، أو محاولة الجمع بين الموقفين من خلال نظرية الكسب التي تفيد بأن الإنسان لا يخلق أفعاله بقدر ما يكتسبها في سياق علاقته بالإرادة الإلهية؛ وهو تفسير- وإن كان يبدو توفيقيا - ينتهي إلى نفي حرية الفعل الإنساني (الأشاعرة)..ومن المعروف أن هذه المواقف الكلامية قد تبلورت في سياق سياسي - ديني تميز بالجدال حول الحكم على ما  يسمى " مرتكب الكبيرة " في خضم الصراع حول الخلافة  والذي بلغ درجة عنيفة في أحداث " الفتنة الكبرى ".

+ ابن رشد :                                    
          بخلاف علماء الكلام الذين تناولوا علاقة الفعل الإنساني بالإرادة الإلهية بهدف نفي أو إثبات مسؤولية الإنسان على تصرفاته، ينقل "ابن رشد" الإشكالية إلى مجال فلسفي / أنطولوجي - لا تغيب عنه الخلفية الدينية بحكم الإنتماء -  يقوم على تحديد علاقة السلوك الإنساني بالحتمية الطبيعية.. فهو لا ينفي قدرة الإنسان على الإتيان بالفعل وضده (الخير والشر) على أساس من الحرية والإختيار، لكنه يؤكد ارتباط هذه الحرية بما تفرضه القوانين الطبيعية التي بثها الله في الكون وفي جسد الإنسان معا. فالفعل الإنساني يجمع بين حرية الإرادة والإختيار وبين كونه محكوما بأنظمة مصدرها القدرة الإلهية سواء كانت أنظمة خارجية تمثلها الحتمية الكونية أو داخلية تعبر عنها القوانين البيولوجية للبدن.

+ ميرلوبونتي :                     
            يرفض فكرة الحرية المطلقة كما قالت بها الفلسفات التأملية التي تعتبر الذات مصدرا لكل أفعال الإنسان (وجودية سارتر)، كما ينفي فكرة الخضوع المطلق للحتميات المتنوعة كما تأكدت داخل العلوم الإنسانية على يد النزعة الوضعية التي ترد السلوك الإنساني إلى عوامل خارجة عن نطاق الوعي والإرادة.                    
             فالنظرة الفينومنولوجية التي ينطلق منها "ميرلوبونتي" تعتبر أن وجود الإنسان يقوم على اندماج عضوي وثيق في العالم ومع الآخرين بصورة تنتفي معها حرية الذات المطلقة. غير أن هذا الوجود الذي يمثل معطى أوليا تلقائيا لا يلغي قدرة الإنسان على الفعل الحر الذي يتجلى في إحداث تعديلات إرادية واعية على هذا الوضع الأول لكي يتمكن من تغيير اتجاه حياته من مسارها التلقائي إلى اتجاه آخر يكون من اختياره. وهو ما يعني أن الحرية أو القدرة على الإختيار لا تنبثق من عدم ما دامت تمارس داخل وضعية معطاة لا تخلقها الذات بشكل مطلق..وإذا كان هذا السلوك الذي يعبر عن حضور الإرادة الحرة تقف وراءه عوامل مثل التنشئة والوسط الاجتماعي، فلا يعني ذلك أنها تحدده بطريقة مطلقة لأن الإنسان لا يمكن إدراكه إلا كوحدة كلية وكبنية تتعذر عن التجزيء الذي يقوم على ربط النتائج بأسباب وعلل محددة كما يحدث في دراسة الأشياء أو الظواهر الطبيعية.
              وعموما، إن اتفاق الموقفين حول نزع الإطلاقية عن الحرية الإنسانية لتأخذ شكل حرية مشروطة أو محدودة لا يحجب التباين بين التصور الرشدي الذي يوفق بين حرية الإرادة وبين حتمية القوانين التي ضمنها الله كلا من الطبيعة والبدن، وذلك في سياق تجاوز الصراع الكلامي في الفكر الإسلامي الوسيط ، وبين فلسفة فينومنولوجية تشرط الحرية بطبيعة الوجود الإنساني ردا على مواقف فلسفية تأملية وتصورات وضعية معاصرة.

 المحور الثاني :                                      الحرية والإرادة

           إذا كانت حرية الإرادة تتمثل في الإقدام على فعل ما يرغب فيه الإنسان، فكيف يتجسد ذلك على مستوى الحياة الأخلاقية ؟ هل القيم الأخلاقية نتاج خالص لإرادتنا الحرة في السمو الأخلاقي، أم أن الإنسان لا يعثر على هذه الحرية إلا في الانسجام والتوافق مع نوازع طبيعته الغريزية ؟
+ كانــط :                                     
             لقد اعتبر"كانط" أن القضايا الميتافزيقية (خلود النفس/ حرية الإرادة / وجود الله) ليست موضوعا للتفكير والتأمل من طرف العقل النظري الذي يبقى مرتبطا بمجال الظواهر الطبيعية المشروطة بأسبابها، بل هي مبادئ أولية يعتمدها العقل العملي الأخلاقي لأنه بدونها لا يمكن الحديث عن الواجب والمسؤولية الأخلاقية للإنسان. ومن ثم تصبح حرية الإرادة خاصية ضرورية تتأسس عليها المسألة الأخلاقية كما يتجلى ذلك في تأكيد "كانط" على أنه ينبغي التسليم بأن الحرية خاصية لجميع الكائنات العاقلة على أساسها يتمكن الإنسان من ممارسة الفعل الأخلاقي وفقا للقواعد التي يقتضيها القانون الأخلاقي الذي ليس في الحقيقة سوى تعبيرا عن الإلتزام بالعمل بناء على الإرادة الطيبة التي تجعل هذا الفعل ينتمي إلى مملكة الحرية والغايات...فحرية الإرادة سمة جوهرية للإنسان بوصفه كائنا عاقلا، بها يستطيع ممارسة الواجب الأخلاقي كتعبير عن البعد الأخلاقي الذي يسمو بالإنسان عن بقية الكائنات.
+ نيتـشــه :                                     
          تقوم فلسفته على اعتبار "إرادة القوة" الجوهر الحقيقي للوجود الإنساني بوصفها تعبيرا عن الإرادة في الحياة وقد بلغت أقصى درجات كمالها بنزوعها نحو نموذج الإنسان الكامل أو الأعلى..غير أن استقراء التاريخ يؤكد أن هذه الإرادة قد تم نفيها مع هيمنة أخلاق الزهد التي أضفت المعنى على وجود الإنسان عندما وضعت منظومة من القيم من أجل إنقاذ البشر من حالة العدمية المتمثلة في غياب معنى محدد للحياة. فالإنسان الذي وجد نفسه عاجزا عن ممارسة إرادة القوة، وغير قادر بالتالي على تحمل حقيقة الحياة بوصفها دون معنى، قد اتجه إلى ابتكار القيم الأخلاقية القائمة على الزهد لكي يمنح لوجوده هذا المعنى المفقود فرسخ بذلك إرادة الموت عبر إقصاء ما هو طبيعي غريزي وحيوي في الإنسان، أي كل ما هو إنساني في الإنسان حسب هذا التصور...وبناء على ذلك، يصبح المثل الزهدي الذي يسعى إلى فرض الكمال الأخلاقي نقيضا لجوهر الحياة لكونه يرمز إلى العجز عن ممارسة الحياة الطبيعية (إرادة القوة) ما دام يقوم على الدعوة إلى النفور من الحياة بنفيه لكل رغبة حسية وإعدامه لكل نزوع طبيعي للإنسان نحو التمتع بالسعادة والجمال.                        
         وعموما، إن حرية الإرادة لا تتجسد في إرادة المعنى التي يعبر عنها المثل الزهدي بقدر ما تقتضي هذه الحرية قطع الصلة مع الأخلاق بمعناها المثالي المضاد للحياة.
         هكذا يتضح أنه من زاوية نظر مثالية تشكل حرية الإرادة الأساس الضروري لتبلور البعد الأخلاقي المميز للإنسان لكونها مصدرا لممارسة الفعل الأخلاقي المتمثل في الواجب المطلق (كانط)، بينما تتحدد حرية الإرادة في القطع مع الأخلاق المثالية أو المثل الزهدي لصالح إرادة القوة التي هي جوهر الحياة من وجهة نظر مضادة للمثالية(نيتشه)..

المحور الثالث :                   الحريـــة والقانــون

         ما دام الوجود الاجتماعي للإنسان يجعل حريته مرتبطة بطبيعة المجتمع وما يفرضه من ضوابط قانونية أو ما يوفره من مناخ سياسي تتحقق فيه الحرية أو يتم تغييبها، فكيف تتحدد الحرية كممارسة قانونية؟ وكيف يمكن للسياسة أن تمثل مجالا لوأد الحرية أو لانتعاشها؟
+ مونتيسكيو :                                
           يرى أن الأهمية التي تكتسيها الحرية في أنظمة الحكم الديمقراطية تجعل الشعب يبدو وكأنه يقوم بما يريده دون إكراه ما دام هو الذي يختار حاكميه ويمارس حرية التعبير والتفكير...لكن رغم ذلك يؤكد "مونتيسكيو" على أن الحرية السياسية لا تعني قيام الفرد بما يريده دون ضوابط تتمثل في القوانين السائدة داخل الدولة، وذلك لأن تحديد الحرية في قدرة الفرد على القيام بما يناقض القانون لا ينتج عنه سوى انحسار الحرية وسيادة الفوضى ما دام كل الآخرين لهم القدرة على نفس الفعل .فالحرية لا تمارس خارج ما تسمح به أو تستوجبه القوانين المنظمة للدولة والمجتمع، بحيث تتحدد في قدرة الفرد على القيام ليس بما يريده بل بالأحرى بما يجب أن يريده، وألا يكون مرغما على فعل ما لا يجب أن يريده..ويعتبر"مونتيسكيو" أن الشرط اللازم لضمان الحرية السياسية هو اعتماد مبدأ الفصل بين السلط الذي تستند إليه الأنظمة الديمقراطية كصمام أمان ضد أي تجاوز أو شطط في استعمال السلطة.
+ حنا أرندت :             
           تؤكد "أرندت" على أن الحرية ليست كيانا نفسيا باطنيا ينبثق الشعور به في عزلة تامة للذات عن العالم والآخرين كما تذهب إلى الاعتقاد بذلك الفلسفات التأملية المثالية، بل هي ممارسة عملية يومية تتم في الفضاء السياسي الذي تعتبره المجال الحقيقي للحرية. فالحرية كمفهوم نظري للتأمل أو كشعور داخلي تظل غير قابلة للبرهنة ودون قيمة بالنسبة للإنسان ما لم تتحول إلى ممارسة فعلية وحرية ملموسة تتجسد في غياب الموانع أمام تمتع الأفراد بحقوقهم السياسية والمدنية، وهو ما يقتضي توفر نظام سياسي يضمن حياة عمومية ملائمة لانبثاق الحرية كواقع ملموس...غير أن الحرية بهذا المعنى ليست ميزة لجميع الأنظمة السياسية مثلما يؤكد ذلك النموذج الإستبدادي الذي يعدم الشروط اللازمة لحياة عمومية تنتعش فيها الحرية ما دام يجرد الأفراد من الحق في " ممارسة الفعل والكلام "، أي من كل الحريات التي تشمل التعبير والتفكير والتنقل والتجمع. وبذلك يظل النموذج الديمقراطي هو النظام الأكثر قدرة على توفير الشروط السياسية الكفيلة بتجسيد الحرية في الممارسة اليومية للمواطنين.
          يتبين إذن أن الحرية ليست مبدأ مطلقا ومتعاليا عن شروط تحققه الواقعية..فقد تتمثل في الضمانات القانونية التي تجعل حرية الأفراد لا تتجاوز حدود ما تسمح به تشريعات الدولة القائمة على فصل السلط (مونتيسكيو). غير أن هذه الحرية المقننة قد تتحول إلى إعدام للحرية في ظل أنظمة سياسية استبدادية لا توفر حياة عمومية مضمونة سياسيا (أرندت).

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire