الحـقيـقـــــــــة
تقـديــــــــــم :
ينطوي الحقل الدلالي لمفهوم الحقيقة على
معان متعددة تشمل مستويات عدة..فالحقيقة تستخدم بمعنى الشيء الواقعي الموجود وجودا
فعليا مقابل الخيال أوالوهم، وبمعنى الجوهر أو الماهية الثابتة مقابل الأعراض
المتغيرة الزائلة (الدلالة الأنطولوجية).. كما تعني الحقيقة الحكم الصائب أو
الصادق مقابل الخطأ أو الكذب (الدلالة المنطقية أو المعرفية)، إضافة إلى ما تعنيه
الحقيقة في مجال اللغة بوصفها المعنى الثابت للفظ مقابل المجاز الذي يمثل المعنى
المتغير أو المتحول... وهذا التعدد الدلالي جعل مفهوم الحقيقة يتسم بطابع إشكالي
من حيث تكامله مع مفاهيم معينة (الواقع - الحكم - الماهية - الثبات..) أو تعارضه
مع أخرى (الخطأ - الوهم والكذب - المتغير..)؛ الشيء الذي يفسر كون
"الحقيقة" قد شكلت مجالا للتناول الفلسفي والعلمي (أو الإبستيمولوجي)
بغاية تحديد طبيعتها ومصادرها ومقاييسها وقيمتها...
·
فما هي الطرق التي تضمن بلوغ الحقيقة؟
·
وما هي المعايير التي تتحدد وفقها الحقيقة؟
·
وما الذي يجعل من الحقيقة قيمة بالنسبة
للإنسان؟
المحور الأول : الـــرأي والحقيـقـــة
إذا كان من الطبيعي أن تتعدد
الوسائل المعتمدة في تحصيل الحقيقة.. فما هو الطريق الأنجع
لبلوغها؟ التأمل العقلي أم الحدس الوجداني ؟ وما قيمة الرأي في تأسيس الحقيقة
؟
- أفلاطــــون
:
انطلاقا من تمييزه ،في
نظرية المثل، بين عالم مادي محسوس يتشكل من الأشياء الملموسة التي يعتريها التغير
والزوال والنقص، وتمثل مجرد ظلال وأشباح أو نسخ مشوهة ناقصة ل"عالم
المثل" كعالم معقول ثابت وكامل تعتبر موجوداته بمثابة نماذج عليا (المثل) لكل
الأشياء المادية؛ يؤكد "أفلاطون"
أن المعرفة الحقة لا يمكن أن تضمنها الحواس التي تقف عند حدود الظاهري
المحسوس والمتغير، بل تتأتى من خلال إدراك حقائق عالم المثل، أي المعقولات المجردة
الثابتة والمطلقة، وهو ما يتم عبر التأمل العقلي أو"الجدل الصاعد" الذي
ينتقل من الملموس إلى المجرد، من المحسوس إلى المعقول، من الأدنى على الأعلى،
وبالتالي من أوهام المعرفة الحسية إلى "الماهيات" أو"المثل".
-
باســكـال :
"إن
للقلب حقائقه التي لا يدركها العقل"...يعبر
هذا القول ل"باسكال" عن حضور نزعة دينية أو صوفية لدى عالم اشتهر بتعدد
مواهبه العلمية والأدبية دون أن يهمل الجانب الوجداني كمصدر للحقيقة. فهو يؤكد على
أن القلب يمثل وسيلة لبلوغ الحقيقة منتقدا بذلك الموقف العقلاني الذي ينظر إلى
العقل كمصدر وحيد للمعرفة، ورافضا النزعة الشكية التي تنكر وجود الحقيقة أصلا.
فالقلب له حقائقه المتمثلة في مبادئ أولية منبعها الشعور، تدرك بشكل حدسي مباشر
ولا تحتاج بالنتيجة إلى الاستدلال؛ ومن ثم فهي تشكل الأساس الذي يعتمد عليه العقل
في بناء استدلالاته بهدف استنباط حقائق أخرى.
- باشلار:
يرى
أن الحقيقة العلمية تتعارض مع الرأي الذي ينطوي دائما على الخطأ بسبب ارتباطه
بالمنافع العملية اليومية للإنسان، بخلاف المعرفة العلمية التي لا توجهها دوافع أو
أغراض نفعية. وهذا ما يجعل من الرأي عائقا إبستيمولوجيا يحول دون بلوغ معرفة علمية
دقيقة حول الواقع، لأن ما يمدنا به عبارة عن معرفة عامية غايتها تلبية حاجات عملية
كما يشير إلى ذلك "باشلار" في قوله :"
إن الرأي مخطئ. إنه يفكر تفكيرا سيئا، بل إنه لا يفكر، وإنما يترجم حاجات إلى
معارف"...فالرأي يظل معرفة تلقائية تفتقر
إلى التبرير العلمي، في حين أن الحقيقة العلمية مطالبة بأن تتحرر من عيوب المعرفة
العفوية المعطاة اعتمادا على منهج صارم يسمح ببناء معرفة تمثل قطيعة إبستيمولوجية
مع الرأي.
كخلاصة،
يتبين أن طرق تحصيل الحقيقة تتنوع بقدر تنوع مجالاتها واختلاف المنظورات المعتمدة،
حيث يحتكر العقل الحقيقة من زاوية نظر عقلانية مثالية (أفلاطون)، ويصبح القلب
موطنا لها من منظور تمتزج فيه الروح العلمية بالنزعة الدينية (باسكال)، كما أن
الحقيقة العلمية تبنى على أسس منهجية تجعلها نقيضا للرأي من منظور إبستيمولوجي
(باشلار).
المحور الثاني: معايــير الحقــيقـــة
علاوة على التباين في تصور الوسائل المؤدية
إلى الحقيقة يطرح هذا المفهوم مسألة المعايير المعتمدة في قياس مصداقية ما يتم
التوصل إليه من معارف..فكيف تتحدد معايير الحقيقة في ظل تعدد الخطابات الفلسفية؟
-
ديكارت :
اتسم الاتجاه العقلاني،
بمختلف تمظهراته عبر تاريخ الفلسفة ،بإضفاء طابع عقلي خالص على الحقيقة من خلال
التأكيد على أن ما يدركه العقل يكون يقينيا مقابل ما تمدنا به الحواس من نتائج
وهمية خادعة..ويعبر"ديكارت" عن هذا الموقف حين يؤكد على أن ما يضمن بلوغ
الحقيقة هو الاعتماد على منهج صارم يقوم على "الحدس" و
"الاستنباط". فالحدس إدراك عقلي مباشر للأفكار البديهية التي يتقبلها
العقل دون حاجة إلى الاستدلال (حقيقة الأنا أو"الكوجيطو" / حقيقة المثلث
والدائرة..)، والإستنباط إدراك عقلي غير مباشر يتم بموجبه استخلاص حقائق جديدة،
بطريقة منطقية ،استنادا إلى الحقائق البديهية (الحدسية). وبناء على ذلك، يتحدد
معيار الحقيقة في "البداهة" المرتبطة بالحدس من جهة، وفي "التماسك
المنطقي" المرتبط بالاستنباط من جهة ثانية، إذ أن الأفكار التي تنسجم مع
القواعد الاستنباط المنطقي لا تقل يقينا عن الحقائق البديهية.
-
اسبينوزا :
من نفس المنظور العقلاني،
يعتبر"ب - اسبينوزا" أن ما يضفي اليقين على الحقيقة هو بداهتها التي
تفرض نفسها على العقل. فالحقيقة تحمل معيار صدقها في ذاتها وخطأ ما يخالفها تماما
مثلما يحمل النور في ذاته قوة الانكشاف التي تزيح الظلام، وكل ما يتم إدراكه من
طرف العقل بطريقة حدسية مباشرة يصبح غير قابل للشك.
هكذا تكون مطابقة الفكر لذاته معيارا
للحقيقة عند العقلانيين ؛ وهو ما رفضه الاتجاه التجريبي الذي يؤكد على معيار
التطابق بين الفكر والواقع الموضوعي الملموس الذي يمثل منبعا ومرجعا لكل حقيقة،
لأن الانسجام مع ما تؤكده التجربة هو ما يضمن للحقيقة يقينها.
-
هايدجر :
نجد مواقف فلسفية معاصرة رافضة لمعيار المطابقة
كما تصورته النزعات العقلانية والتجريبية في سياق صراعها النظري حول الحقيقة، حيث
يؤكد"هايدجر" على معيار"الانكشاف" الذي يقتضي ترك الحقيقة
تعبر عن نفسها بحرية ودون إكراه قبلي سواء تمثل في أطر العقل أو في قواعد التجريب
والاختبار. فانفتاح الذات على الواقع واستعدادها لاستقباله كما ينكشف أمامها هو
الطريق الأمثل نحو الحقيقة، لأن "الحقيقة حرية" حسب
تعبير"هايدجر".
كخلاصة، يلاحظ أن معايير الحقيقة قد تتمثل في
انسجام العقل مع ذاته من زاوية نظر عقلانية، أو في الاتفاق مع الواقع حسب التجريبيين،
أو في معيار الانكشاف الذي يتلاءم مع المنظور الفينومنولوجي.
المحور الثالث: الحقيقة بوصفها قيمة
· لقد أضفت الفلسفة اليونانية قيمة نظرية على الحقيقة من خلال
اعتبارها "غاية في ذاتها" يسعى الإنسان من وراء امتلاكها إلى المعرفة أو
القضاء على الجهل وليس لتلبية أغراض عملية. فالمبدأ الذي يستند إليه هذا الموقف هو
الحقيقة من أجل الحقيقة كتعبير عن أهمية ما هو نظري خالص مقابل ما هو عملي نفعي..
· وفي سياق الفلسفة الحديثة يبرز موقف"كانط" الذي
يقوم على اعتبار الحقيقة واجبا أخلاقيا مطلقا يكتسي بعدا إنسانيا مجردا من
المنفعة. فهو يعتبر أن الحقيقة "واجب قطعي على الإنسان تجاه كل إنسان مهما
تكن جسامة الضرر الذي يمكن أن يترتب عنه بالنسبة إليه". فالحقيقة واجب
ينبغي التمسك به في مطلق الأحوال وتجاه كل الناس دون مراعاة للعواقب لأن الغاية
التي ينبغي السعي وراءها دوما هي خدمة الإنسانية جمعاء. ومن ثم يصبح الكذب رذيلة
لأنه ينحرف بصاحبه عن هذا المسلك كما يتضح من قول"كانط" : "
الكذب مسيء للغير دائما حتى وإن لم يسيء إلى إنسان بعينه، فهو يسيء إلى الإنسانية
جمعاء".
· تضمنت الفلسفة المعاصرة عدة تصورات حول قيمة الحقيقة من بينها ما
يذهب إليه الاتجاه البراجماتي الذي يجعل من الحقيقة وسيلة لتحقيق المنفعة العملية
رافضا النظر إليها كغاية كما فعلت المواقف التقليدية. فالفكرة التي نستفيد منها
وتبين عن صلاحيتها العملية تمثل الحقيقة مقابل الفكرة الخاطئة التي لا نستطيع
استثمارها عمليا. وهذا ما يعبر عنه "وليام جيمس" رائد هذه النزعة
في قوله :"يقوم الصادق بكل بساطة في كل ما هو مفيد لفكرنا، والصائب في ما
هو مفيد لسلوكنا"..
- هايدجر :
يرى أن الإنسان عندما ينصهر
في الجماعة أو"الهم" يفقد كينونته الفردية ويتيه عن حقيقة ذاته، حيث
ينصرف إلى الوجود الزائف الذي هو أكثر رواجا وينسى الوجود الحقيقي. وبذلك
يعتبر"هايدجر" أن الحقيقة تتجاور مع التيه كوجود زائف يختفي فيه الكائن
الفرد، ويمثل مجالا لكل ما هو مضاد للحقيقة. فقيمة الحقيقة تتجلى ،إذن، في مدى
قدرتها على تجاوز حالة التيه التي تطبع
الوجود الإنساني.
- إريك فايل :
إن
الحقيقة لا تتقابل مع الخطأ ليكون مقياسها تطابق الفكر مع الواقع، بل إنها تتعارض،بالأحرى، مع العنف الذي يتطلب القضاء
عليه خلق التطابق بين الإنسان والفكر من خلال إنشاء خطاب عقلاني متماسك يسمح
بإحلال المعنى محل العنف. فما يعرفه العالم من عنف وشقاء يفرض الحاجة إلى مثل هذا
الخطاب الذي يستند إلى العقل كمصدر لقيم التسامح أو اللاعنف.
هكــذا
يتــــــــبين أن الفكر الفلسفي قد أضفى على الحقيــقة قيمة فــــكرية خالصة
(اليونان)، وقيـمة أخلاقية مطلقة (كانط)،وذلك في سياق هيمنة نظرة مثالية تقليدية..
كما تتخذ الحقيقة،في الفكر المعاصر، قيمة عملية نفعية (البراجماتية)،أو قيمة
إنسانية تجعلها في مواجهة التيه والعنف في إطار مواقف تحاول التعبير عن الواقع
الإنساني الراهن (هايدجر / فايل).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire