ملاحظات أولية :
قبل الشروع في تناول منهجية الكتابة ، لابد من
الإشارة إلى المعطيات التالية :
● ← نلاحظ بأن مقرر مادة الفلسفة يتضمن أربع مجزوءات
تندرج تحتها مفاهيم متنوعة ..وهي مفاهيم تطرح عدة إشكاليات أفرزت مواقف أو أطروحات
تنتمي إلى حقل الفلسفة من جهة ، أو ترتبط بمجال "الإبستمولوجيا" من جهة
ثانية ( ما يخص مثلا مجزوءة المعرفة..).
وعندما نطلع على هذه الأطروحات ، نجدها
متباينة ومتعددة من حيث الأجوبة التي تقدمها حول الإشكاليات المطروحة ( كل إشكالية
تستدعي أكثر من موقف واحد...).
فكيف يمكن تفسير هذا التنوع الذي
تتسم به المواقف ..؟
● ← إن الموضوعات التي تشكل مادة للتفكير الفلسفي هي
عبارة عن إشكاليات يتعذر إيجاد حل وحيد أو نهائي لها ، وذلك لكونها موضوعات مركبة
أو متعددة الأبعاد بحيث تقتضي الإحاطة بها استحضار مجموعة من المعطيات التي لا
يمكن أن تتوفر إذا ما اقتصرنا على موقف وحيد أو وجهة نظر واحدة.
لنأخذ ، مثلا ، الإشكالية التي يتضمنها المحور
الأول من مفهوم الشخص ( أي أساس هوية الشخص )، حيث نجد تفسيرات متعددة
من أهمها :
1- أطروحة "ديكارت" التي تقوم على اعتبار "الوعي
المجرد"
أساسا للهوية ، أي المصدر الذي يستمد منه الشخص وعيه بذاته أو بهويته الشخصية...
يذهب هذا التصور ، إذن ، إلى أن القدرة على
التفكير ( أي الوعي المجرد أو المستقل عن الحواس) هي التي تسمح للإنسان بأن
يدرك ذاته أو أن يعي وجوده وكينونته ..وهذا هو مدلول العبارة الديكارتية المشهورة " أنا أفكر ،
إذن فأنا موجود "
( ما يسمى اختصارا ب "الكوجيطو" Le Cogito .أو ألأنا أفكر
أو الذات المفكرة..).
مثال
توضيحي :
من
المؤكد أن شخصا معزولا عن العالم الخارجي ، أويوجد في غرفة مظلمة بحيث لا يستطيع
الرؤية ولا اللمس ولا السمع....، هو شخص
يتمكن مع ذلك من الوعي بذاته ما دام قادرا على التفكير ، أي لا تغيب عنه
هويته – أو أناه – لكونه يمتلك خاصية التفكير التي يحقق بواسطتها الوعي بذاته أو
بوجوده وكينونته...فالوعي المجرد يمثل وسيلة لإدراك ذاتي أو الوعي بهويتي
الشخصية...
◘ إذن فالتصور الديكارتي يكشف لنا عن إحدى
القوى الأساسية التي يتميز بها الإنسان هي "الوعي المجرد" الذي يتيح لنا إدراك ذواتنا من دون
حاجة إلى الإحتكاك بالعالم الخارجي..
2- أطروحة "جون لوك" التي تؤكد على أن "الشعور
والذاكرة"
هو الأساس الذي ينبني عليه الوعي بالذات..
ﭐ - لا
ينفي "ج – لوك"أن الشخص كائن مفكر كما ذهب إلى ذلك "ديكارت"،
ولكنه يعتبر أن فكر الإنسان مصدره الأساسي هو ما تمدنا به الحواس من معطيات تأتينا
من خلال عملية اتصالنا بالعالم الخارجي..لذلك يمثل الشعور الوسيلة الأولى التي نتلقى بها تلك
المعطيات التي تتحول إلى أفكار في أذهاننا. وتتم هذه العملية عندما نحتك
مباشرة بالواقع الخارجي عبر الحواس ﴿أي في
الحاضر / الآن..﴾.
← معنى ذلك أنني عندما أرى أو أسمع أو أتذوق..إلخ
، تكون نتيجة هذا الشعور هي وعيي بذاتي ، أو بوجودي وكينونتي ، لأنني أدرك حينذاك –
أي حين حدوث ذلك / في الحاضر – أنني "أنا" الذي أرى وأسمع
و.....
ب - من
جهة ثانية ، تتدخل الذاكرة لترسخ هذا الوعي بالذات لكونها تقوم بالربط بين
الماضي والحاضر ، ومن ثم تجعل الشخص يدرك استمرار ذاته في الزمان.. ﴿ أي يدرك أنه
هو نفس الشخص في الماضي والحاضر﴾.
← عندما أتذكر ما عشته من أحداث في
فترات ماضية فإنني أحقق بذلك وعيي بذاتي، أو بهويتي ، ما دمت أعلم حينذاك أنني
"أنا" نفس الشخص الذي وجد في الماضي والذي لا يزال يوجد في الحاضر...
◘ إذن فهذا التصور يكشف بدوره عن بعد آخر يميز
الإنسان ، وهوقدرته على الوعي بذاته من خلال ما تنقله إليه حواسه عندما يرتبط
بالعالم الخارجي ← الشعور...
ومن خلال عملية
التذكر التي تربط ماضيه بحاضره فتجعله يدرك ذاته ويعي وجوده ← الذاكرة..
( يمكن إضافة تصورات أخرى كموقف "شوبنهاور"
الذي يِؤكد على أهمية "إرادة الحياة"كقوة غريزية يرى أنها أكثر أو
أقوى حضورا في تحقيق الوعي بالهوية...ويمكن الرجوع بصدد هذا الموقف إلى النص المتضمن
في كتاب "في رحاب الفلسفة"الخاص بالشعبة الأدبية / المحور الأول من
مفهوم الشخص / ص 16..).
يتبين لنا – انطلاقا من المعطيات السابقة – ما يلي :
۱ - أن الشخص – أو الإنسان – يتوفر على قوى متعددة يتمكن بواسطتها من تحقيق
الوعي بذاته ، أي أن هذا الوعي بالذات يتم بأشكال متنوعة ولا ينحصر في بعد دون
آخر.. فقد نحصل على الوعي بهويتنا إما بواسطة القدرة على التفكير أو الوعي
المجرد (كما يرى "ديكارت") ؛ وإما عبر الشعور بما تمدنا به
الحواس من معطيات وما ترسخه لدينا الذاكرة من وعي باستقرار ودوام هذه
الهوية (كما رأى "جون لوك"...)...وهذا يعني أن الوعي بالذات متعدد
الأوجه أو الأبعاد ، وليس مسألة بسيطة تقبل الإختزال في بعد واحد..
ملحوظة :
ينبغي أن نأخذ في اعتبارنا أننا بصدد التفكير في
"الإنسان"، أو الوجود الإنساني ، الذي تتعدد أبعاده و تتنوع بين ما هو
غريزي/ طبيعي وما هو اجتماعي وسياسي وفكري وأخلاقي...إلخ. ومن ثم يتعذر علينا فهم
طبيعة الوجود الإنساني إذا لم نستحضر مختلف الأبعاد والمقومات التي تشرط هذا
الوجود..فقد لاحظنا أن موضوع الهوية – وحده – يستلزم استدعاء أبعاد مختلفة مثل
التفكير والشعور والذاكرة (إضافة إلى إرادة الحياة عند "شوبنهاور" ...).
ونفس الأمر ينطبق على بقية الإشكاليات التي يتضمنها المقرر، حيث نجد أن كل موضوع
يقتضي تناول أبعاد متعددة ، وبالتالي الإنفتاح على مقاربات أو أطروحات مختلفة..
۲ -
أن الموقفين السالفين يختلفان في
تصورهما لأساس هوية الشخص...وهذا الإختلاف لا يعني أن موقفا واحدا منهما مصيب
والآخر خاطىء. فقد لاحظنا بأن كلا منهما يكشف عن بعد معين لدى الشخص / الإنسان ،
والبعدان معا ﴿ الوعي المجرد – الشعور والذاكرة ﴾ لهما أهميتهما في حصول الوعي
بالذات..
وما يمكن أن نؤاخذ عليه كل موقف هو التركيز على
بعد دون آخر ، أي التأكيد على دور عنصر معين وإغفال أهمية العنصر الآخر ( أو العناصر
الأخرى )..وذلك راجع إلى كون كل موقف يتبنى وجهة نظر معينة تحكمها المنطلقات
والقناعات الفكرية الخاصة به ، حيث أن "ديكارت" ذو نزعة عقلانية تعطي
الأولوية للعقل / الفكر..بينما "جون لوك" ذو نزعة تجريبية تعطي الأولوية
للتجربة الحسية ..
ملحوظة :
من
المعروف أن الإتجاهين – العقلاني والتجريبي – يختلفان بصدد مصدر المعرفة عموما..هل
هو العقل أم الحس ، الفكر أم الواقع ؟..وقد عرف عن النزعة العقلانية تبنيها لموقف
يعطي الأولوية للعقل بينما ركزت النزعة التجريبية على المعرفة الحسية أو
التجربة..ومن ثم لا غرابة أن يختلف الإتجاهان بصدد مسألة الوعي بالهوية
أو بالذات باعتبارها شكلا من أشكال المعرفة أو جانبا منها.
وهكذا يتضح بأن الموضوع الذي تمت معالجته له طابع إشكالي يتجلى في :
◄ تعدد أبعاد الهوية الشخصية من جهة ( وعي مجرد – شعور
وذاكرة...)، وهو ما يعني أن التركيز، أو الإقتصار ، على عنصر واحد ليس كافيا لتفسير
أساس الهوية..ونتيجة لذلك يكون كل موقف ذا طابع نسبي ما دام يركز على وجه من وجوه
الهوية ، وبالتالي فإن تفسير أساس الهوية لابد أن ينتهي إلى المزاوجة أو الجمع بين
المواقف المختلفة .
( لقد سبق أن لاحظنا
بأن كل تصور – ديكارت وجون لوك – يكشف عن أحد أبعاد الهوية أو الوعي بالذات ، وأن
المزاوجة بين الموقفين هو الذي يساعد على فهم الإشكالية المطروحة ، وليس الإقتصار
على موقف واحد ).
◄تنوع المقاربات أو الأطروحات المقدمة لتفسير هذه الهوية بسبب
تباين المنظورات المعتمدة( موقف عقلاني – موقف تجريبي...). فالإختلاف بين
الأطروحات يرجع إلى كون كل موقف يرتكز على منطلقات فكرية - أو له غايات معينة - تختلف
عن تلك التي يتأسس عليها موقف آخر..
هكذا
يمكننا أن نخلص إلى نتيجة مفادها أن الموقفين معا لهما قيمة فكرية أو معرفية
تتمثل في ما يكشفان عنه بصدد الإشكالية المطروحة..
( المقصود بقيمة التصور هو ما يتضمنه من معطيات لها أهميتها في توضيح بعض
أبعاد الإشكالية المطروحة ، وما يمكن أن يترتب عن تبني هذا الموقف من فوائد ...).
ومقابل
ذلك ، يظل كل موقف محدودا أو نسبيا لكونه يغفل جانبا معينا من الموضوع.
( نعني بحدود الموقــف ما يغفله من
معطيات ، وما يمكن أن ينتج عن تبني هذا الموقف من سلبيات ..)..
وإذا
أردنا أن نخلص إلى استنتاج بهذا الصدد ، سيكون من الأفضل أن نؤكد على ضرورة
الإحاطة بعدة تصورات من أجل بلوغ فهم أعمق لهذه الهوية المتعددة الأبعاد..
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire