annonce

jeudi 2 février 2017

دروس في الفلسفة السنة الثانية باكلوريا ( درس النظرية و التجربة)



المجزوءة الثانية :

المــعرفـة

مدخل عام :

      تشكل المعرفة بعدا هاما يكشف عن الفاعلية البشرية بوصفها فاعلية مبدعة تمكن الإنسان بواسطتها من تحقيق تقدم كــــبير في التــعرف على حقائق الكــــــون وأسرار الحياة..فالإنسـان يتحدد ككــــائن عــــــارف (Homo Sapiens) يتمكن من خلال وعيه بذاته وبالأشياء من حوله أن ينتج معارف يتعقل بها العالم الذي يعيش فيه .كما أن قدرته على صنع الأدوات (Homo Faber) تعتمد بشكل كبير على فاعليته المعرفية ،أو هي بالأحرى امتداد لها من خلال تحويل المعارف النظرية إلى تقنيات عملية تطبيقية.
   وباستقراء التاريخ البشري،يـتبين لنا مدى التقـدم الذي حقـقه الإنسان في إنتاج المعارف المختلفة سـعيا وراء امتلاك فـهم للـظواهر المتــنوعة التي أثارت اهتمامه.ومن أبرز التطورات الفـكرية التي ميزت مجال المعرفة  ظهور المعرفـة العـلمية  -  في العـصور الحديـثة -  كنـمط مــن التفـكير فـتح أمام الإنسان آفـاقا جديـدة في تطــوير معارفه ؛ وذلك بدءا بالعلوم الطبيعية (عصر النهضة) التي أبانت عن فعاليتها في الكشف عن قوانين عالم الطبيعة،وصولا إلى العلوم الإنسانية (ق19/20) التي تمثل محاولة لاستكناه الوجود الإنساني ومحدداته.
    فبفضل اعتمادها على منهج دقيق يقوم على الملاحظة والتجريب، حققت العلوم الطبيعية - أو الحقة -  نجاحا باهرا في الكشف عن القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية موفرة بذلك إمكانية التنبؤ كتعبير عن التحكم في الطبيعة بدل الخضوع لها...كما أن الإنسان سيجعل من ذاته موضوعا للمعرفة مع نشوء العلوم الإنسانية كمؤشر على اتساع دائرة المعرفة العلمية من خلال السعي نحو اكتشاف عالم الإنسان بعد اكتساح العلوم لعالم الطبيعة.      غير أن هذا التقدم المعرفي الذي راكمته البشرية قد أفرز - في المقابل -  إشكالات نظرية تتنوع حسب المستويات والمجالات التي ينفتح عليها مفهوم المعرفة بشكل عام، والمعرفة العلمية بشكل خاص، ومن أبرزها:
   1-  الإشكالية المرتبطة بطريقة بــــناء الحقـــيقة العلمية في علاقتها بكل من التجـربة والنظـرية.
   2- إشكالية "العلــمية" التي تطرحها العلوم الإنسانية في ظل هيمنة النموذج العلمي الذي رسخته العلوم الطبيعية  أو التجريبية.
   3- الإشكالية المرتبطة ب"الحقيــقة"، بمعناها العام ،وذلك من حيث تحديد طبيعتها ومعاييـرها وقيمتها.

النظرية والتجربة
 تقديـــم:
     تعـد كل من النظرية والتجربة من المكونات الأســاسية للمعرفة العلمية بوصفها معرفة تنتج مفاهـيم وقوانين تأخــذ طابعا نظريا مجردا، وتعــتمد - في ذات الوقت - على التجارب العـلمية في بناء حقائــقها. ومـــن ثـم شـكلت العلاقــة بين هـذين العنصرين إحـدى القضايا التي أفرزت مواقــف متـنوعة في حــقل الدراسات الإبستيمولوجية ،وذلك نظرا للتقابل الذي يبدو بين النظرية كنتاج عقلي خالص،وبين التجربة المرتبطة بالواقع الملموس..
    ومن حيث الدلالة ،نجد أن لفظ "النظرية" يأخذ ،في الاستعمال المتداول، معنى الرأي الشخصي أو الحكم الذي يتبناه المرء بصدد قضية ما. كما يحيل ،من حيث معناه اللغوي، على الرؤية والملاحظة وعلى التأمل أو النظر العقلي..أما في المجال العلمي، فمفهوم "النظرية" يشير إلى البناء الفكري الذي يأخذ صورة نسق من المبادئ والقوانين التي يتم بها تفسير الظواهر التي تمثل موضوع البحث .
    وبخصوص لفظ "التجربة"، يذهب معناه الشائع إلى مجموع ما يراكمه الإنسان من خبرات في مسار حياته،كما يشير إلى اكتساب مهارة معينة ينتج عنها إتقان عمل أو مهنة ما..أما المعنى المتعارف عليه، في المجال العلمي، فيحدد المفهوم في إعادة إحداث أو صنع الظاهرة - موضوع الدراسة - من أجل الكشف عن القانون الضابط لها. ولذلك يمثل التجريب لحظة حاسمة في مسار المنهج التجريبي، الذي تأسس في إطار العلوم الطبيعية، يتوقف عليها إثبات أو نفي الفرضية / النظرية التي يفسر بها العالم الواقع المدروس.
  ومن خلال هذه التحديدات، يتبين أن دلالة "النظرية" تميل إلى إضفاء طابع تجريدي يجعل من المفهوم بناء فكريا يحيل على العقل و يتعالى على ما هو تجريبي ملموس ، بينما تجنح معاني "التجربة" نحو جعلها مجالا لحضور الواقعي والملموس وغياب التفكير أو تقلص حضوره؛ وهو ما سيثير مسألة تحديد دور التجربة العلمية والعقل في بناء الحقيقة العلمية ،والمعايير التي تستند إليها مصداقية أو صلاحية النظريات العلمية.

المحور الأول :         التجربة والتجريب

    ينبغي التمييز بين التجربة بمعناها العامي الذي يرتبط بتحصيل معارف أو اكتساب خبرات تفيد في الحياة اليومية، وتتخذ - بالتالي - طابعا عمليا نفعيا ؛ وبين التجربة بمفهومها العلمي الذي يتحدد في الطريقة التي تم اعتمادها في الكشف عن العلاقات السببية بين الظواهر الطبيعية من خلال اللجوء إلى اختبار الفرضية/النظرية عبر عملية "التجريب" التي تمثل الخطوة الثالثة والحاسمة في ما يسمى "المنهج التجريبي"...فما قيمة التجريب في بناء المعرفة العلمية؟ وهل يتدخل العقل أو"الخيال" في بلورة الحقيقة العلمية؟

  + " كلود برنار":
    لقد تمت صياغة خطوات وشروط المنهج التجريبي عبر محاولات بدأت مع" لوائح بيكون (فرانسيس بيكون/ق17) مرورا ب "قواعد الإستقراء" (ج – ستيوارت ميل/ق19)،قبل أن تتحدد الصيغة النهائية مع "كلود برنار"(ق19) الذي يلخص مراحل هذا المنهج في عبارته : " الحادث يــوحي بالــفكرة ، والـــفكرة تـقود إلى التجربة وتـوجهها ، والتجربة تحــكم بدورها على الـــفكرة "...فالملاحظة هي أول خطوة يتعرف من خلالها العالم على الظاهرة للإحاطة بمكوناتها،وقد تتم بالعين المجردة أو بالأجهزة التقنية. ويلي ذلك صياغة الفرضية لتفسير الظاهرة تمهيدا لعملية التجريب التي تتحدد وظيفتها في التأكد من صحة الفرضية. وغالبا ما يكون التجريب مخبريا،حيث تتم إعادة إحداث الظاهرة حتى يتمكن العالم من توجيه التجربة بهدف استخلاص القانون العلمي الذي يفسرها..ومن هنا،سيؤكد " ك -  برنار" على الأهمية البالغة للتجريب العلمي في إنتاج المعرفة العلمية، حيث يغدو التحقق التجريبي للنظرية شرطا ضروريا لعلميتها.

 + " روني طوم ":
   نجد من يرى في الموقف السابق تجسيدا لنزعة وضعية تنظر إلى التجربة العلمية الملموسة كشرط ضروري وكاف لبناء النظرية العلمية متجاهلة دور العقل والخيال العلمي...ومن هذا المنطلق، ينتقد "ر – طوم" هذا التصور من خلال التأكيد على أن التجريب وحده ليس كفيلا بإنتاج المعرفة العلمية، وأن العقل يضطلع بدور هام كما يتجلى ذلك في صياغة الفروض العلمية مثلا؛ فالفرضيات التي يقترحها العالم تكون نابعة من نظرية مؤطرة ضمن إشكالية علمية معينة.كما أن التجربة الذهنية الخيالية تسفر عن نتائج علمية لا تقل مصداقية عن الحقائق التجريبية. وتاريخ العلوم الطبيعية يؤكد ضرورة التجربة الذهنية أو الخيال في الكشف عن القوانين العلمية، خصوصا عندما تكون شروط التجريب غير متوفرة (يمكن الإستشهاد بالتجربة الذهنية ل"غاليلي" حول سقوط الأجسام وعلاقته بالهواء مثلا أو بغيرها من التجارب الخيالية في العلوم الطبيعية..ويمكن الرجوع إلى مجلة " علوم ومستقبل " الفرنسية للإطلاع على نماذج من التجارب الذهنية العلمية..عدد 153 / يناير – فبراير 2008..).كما أن الإنتقال إلى دراسة الظواهر " الميكروسكوبية " في الفيزياء المعاصرة قد أبان عن محدودية التجريب في مقاربة حركة وسرعة مكونات الذرة، وكشف – بالنتيجة – عن أهمية العقل الرياضي والتجربة الذهنية في إغناء المعرفة العلمية وتوسيع آفاقها..لذلك يؤكد"ر – طوم " على ضرورة الجمع بين الواقعي والخيالي في النظر إلى المنهج العلمي، لأن التجريب لا ينفصل عن التفكير، والتجربة الذهنية لا تقل أهمية عن التجربة الملموسة، بل إنها تضفي غنى أكبر على الواقع المدروس.
   كخلاصة، يتأكد أن إنتاج المعرفة العلمية، أو بناء النظرية العلمية ، رهين بالعلاقة المتبادلة بين التجريب الذي يجسد ما هو واقعي ملموس، وبين التجربة الذهنية التي تمثل نشاطا رياضيا حرا للعقل..والاختلاف في المواقف يجد تفسيره في تباين المنطلقات الفكرية بين تصور يبدو سجين "النزعة الوضعية" التي تنظر إلى التجريب كمصدر وحيد لبلوغ اليقين العلمي، وموقف "لا وضعي" يؤكد على اندماج الخيال في صميم المنهج العلمي.

   المحور الثاني :       العقــــلانية العلـمية
   عرفت العقلانية كاتجاه فلسفي يؤكد على أولوية العقل في إنتاج المعرفة اليقينية دون حاجته إلى التجربة الحسية التي غالبا ما تكون وهمية زائفة.وقد تبلور هذا التصور مع "ديكارت" الذي يرى أن العقل صفة فطرية تشكل " القسمة الأكثر عدالة بين البشر"،وأنه المصدر الوحيد لبلوغ اليقين (البداهة والوضوح العقليان هو معيار اليقين ..). وقد رفض الفلاسفة التجريبيون (جون لوك / دافيد هيوم) الموقف العقلاني من خلال تأكيدهم على أن التجربة الحسية هي المنبع الوحيد لكل معرفة بشكل يجعل من العقل مجرد "صفحة بيضاء" ترتسم عليها المعطيات الحسية أو مرآة عاكسة للواقع. وعموما،فالموقف العقلاني ينكر أهمية التجربة الحسية مركزا على العقل وحده كمنتج للمعرفة ، بينما يضحي الاتجاه التجريبي بالعقل لصالح التجربة الحسية؛ وهو ما دفع ب"كانط" إلى نقد التصورين معتبرا أن المعرفة لا توجد "جاهزة" بشكل قبلي في العقل،كما أنها لا تكــون "معطاة" في الواقع، بل يتم بناؤها بطريقة تركيبية تـــــــزاوج بين دور
ا لتجربة الحسية ( توفيرا لمعطيات الحسية الضرورية التي لا يمكن للعقل أن يشتغل بدونها..)، ووظيفة العقل (تأطير معطيات الحس في أطر أو مفاهيم عقلية قبلية كالسببية..). وبناء على ذلك، اعتبر"كانط" أن المعــرفة العلمية تتكون من معطيات التجربة ومفاهيم العقل التي تتخذ طابعا كونيا وقبليا.وقد لخص تصـــــوره في قوله:"الحدوس الحسية بدون مفاهيم تظل عمياء ، والمفاهيم بدون حدوس حسية تظل جوفاء".
    هكذا، ينتهي التصور الكانطي إلى تجاوز الإقصاء المتبادل بين العقل والتجربة كما جسده الاختلاف بين أنصار العقل ودعاة التجربة الحسية،وذلك عبر تأكيده على أن المعرفة الممكنة (أو العلمية) هي التي ترتبط بالظواهر القابلة للإدراك الحسي،حيث تمثل المادة الخام التي يتم تحويلها إلى معارف منظمة بواسطة أطر العقل ومفاهيمه القبلية. ومعنى ذلك أن كل تجربة حسية أو علمية تظل مشروطة بما يضفيه عليها العقل من مفاهيم تعطي للمعرفة طابعها اليقيني...
    ولكن التصور الكانطي، رغم كونـــه محاولة تجديدية تساير القيم العلمية المستجدة التي أفرزتها الفيزياء الكلاسيكية (فيزياء " نيوتن " في ق18)، فإنه يظل مشدودا إلى العقلانية التقليدية التي تقوم على اعتبار العقل حائزا، بصورة قبلية ، لكل المقولات اللازمة للمعرفة. فالتأكيد على وجود بنية قبلية للعقل تمكنه من تأطير الواقع الخارجي،وتضمن له بلوغ اليقين، جعل التصور الكانطي - رغم كونه لونا أكثر انفتاحا- يندرج ضمن عقلانية كلاسيكية تعتبر العقل نهائيا كامل البناء، وتعتقد في فطرية الأفكار العقلية وثباتها أو عدم قابليتها للتحول.
    وفي خضم التطورات العلمية التي ميزت الفترة المعاصرة (نظرية المجموعات الرياضية / الهندسات  اللاأقليدية / الفيزياء المعاصرة...)،تبين أن العقلانية التقليدية لم تعد تصوراتها للعقل والمعرفة قادرة على استيعاب هذه المستجدات العلمية،بل تحولت إلى عائق إبستيمولوجي أمام تطور المعرفة العلمية؛ الشيء الذي سيمهد الطريق أمام تبلور عقلانية جديدة تنظر إلى العقل كبنية قابلة للتغيير ومنفتحة على التطورات المعرفية.وهذا ما يعبر عنه الإبستيمولوجي المعاصر "روبير بلانشي": "وهذا القول بثبات المبادئ الموجهة للمعرفة،وبضرورتها المطلقة، هو ما صار العلم المعاصر يطعن فيه". ويؤكد أن العقل لم يعد يتصور كبنية منغلقة على ذاتها أو عبارة عن قائمة متحجرة من المبادئ الثابتة والنهائية، كما اعتقد العقلانيون الكلاسيكيون ،بل أصبح ينظر إليه في انفتاحه على  التجربة وتطوره بتطورها..فالعقل لا يمثل نسقا أو بنية تامة التكوين بقدر ما هو أداة أو قدرة على استعمال معايير وقواعد تتشكل داخل منظومة المعرفة وينطلي عليها ما ينطلي على المعرفة من تحولات.
     وبقــدر ما مثلت العـقلانية المعاصرة إعـادة نـظر في الأسس المنطـقية للعقلانية التـقليدية، بقـدر ما كانت أيـضا تجـاوزا للـنزعة الوضـعية الـتي جـعلت مــن التـجربة منبـعا وحـيدا للنـظرية العلـميـة..ومـن هـذا المـنطلق، يؤكد "ألبير إينشتاين" على أن التجربة العلمية لم تعد، كما تصورتها النزعات الإخبارية ،هي المصدر الذي تستمد منه المعرفة في الفيزياء المعاصرة، بل التفكير النظري هو الذي أصبح يتحكم في مسار بـناء هــذه المعرفة. فرغـم أن النــسق النــظري للعـلم (الفيزياء المعاصرة) يقــوم على العلاقـة المتبادلـة بين الـعقل ومعطيات التجربة، إلا أنـه حــوار تكــون فيه المبــادرة للعـــقل وليــس للتجربة. والتــجربة الفيــزيائية المعاصرة هي بمــثابة تحقـــق للعــقلي ولشروط نــظرية ريـــاضية بدونـــــــــها لا يمـــكن للتـــجربة أن تتحـــقق، وذلـك بصــــورة تجـــعل المعـطيات التجريـــبية تطــابق الـنظرية العلــــمية وليــــس العكـــس. وهو ما يؤكد على أساسه "أينشتاين" أن المبدأ الخلاق في العلم يتمثل في العقل الرياضي لا في التجربة...ومن جهته، يرى"غاستون باشلار" أن عمل الفيزياء المعاصرة يتم وفق علاقة جدلية بين العقل والتجربة، منتقدا من خلال ذلك الثنائية القديمة التي كانت تقيمها النزعات العقلانية والتجريبية بين عقل معزول عن الواقع وواقع مستقل عن العقل.
    هكذا يتبين أن العقلانية التي شكلت إحدى السمات المميزة للفكر الأوربي - إن لم تكن أهمها - قد واكبت الفكر العلمي بتطوراته وأزماته، حيث انتقلت من تصور كلاسيكي يقوم على النظر إلى العقل كبنية قبلية مكتملة البناء،وهو تصور يعكس المناخ العلمي الذي تميز آنذاك بهيمنة النسق النيوتوني في الفيزياء.. إلى تصور يعتبر العقل بنية دينامية تتجدد بتجدد المعارف من جهة، ويمثل عنصرا فاعلا في بناء المعرفة العلمية، دون أن يعني ذلك الوقوع في مثالية الذات أوالعقل، لأن العقل يظل مرتبطا بالتجربة بدرجات مختلفة؛ وهو تصور تبلور في خضم التطورات العلمية المعاصرة.

  المحور الثالث :                  مـعايـير العـلمـيـة
     لقد انبثقت النزعة الوضعية في مناخ فكري تميز بتحقيق العلوم الطبيعية (الفيزياء بشكل خاص)لتقدم باهر جعل منها مثالا نموذجيا للمعرفة الفعالة التي مكنت الإنسان من الكشف عن قوانين العالم الطبيعي والسيطرة عليه بعد مرحلة طويلة من الخضوع والانبهار بنظام الكون في ظل سيادة تفكير تأملي ميتافيزيقي دعا الوضعيون إلى الانصراف عنه نحو النمط الجديد الذي تجسد في المعرفة العلمية.. ومن هنا ستتسم النزعة الوضعية بتمسكها الشديد بالتجربة كمنبع ومعيار للمعرفة مع التقليل من أهمية العقل الذي أصبح رمزا لتفكير متجاوز. فالواقع الملموس سيمثل المصدر الوحيد الذي تنشأ منه النظرية العلمية والمرجع الذي تؤول إليه عبر التجريب العلمي،مما سيجعل معيار الصلاحية العلمية منحصرا في مطابقة النظرية للواقع الموضوعي، إذ تأخذ صفة اليقين مادامت التجربة تؤكدها وتصبح زائفة في حال تكذيب التجربة لها..ويعبر "بيير دوهيم" عن ذلك في قوله: " إن الاتفاق مع التـجربة يشــكل، بالنسبة للنظرية الفيزيائية ،المــعيار الوحـيد للحقـــــيقة"..ومن أبرز النتائج التي ترتبت عن هذا التصور تأكيد الوضعيين على أن وظيفة النظرية العلمية تتحدد في "الوصف" الذي يتجلى في تجميع وتنظيم القوانين العلمية التي يتم الكشف عنها دون اللجوء إلى التفسير أو البحث في الأسباب التي تقف وراء حدوث الظواهر.ويؤكـــــد  "ب- دوهيم" ذلك حين يقول:" إن اعتبار النظرية الفيزيائية كتفسير افتراضي للواقع المادي يترتب عنه جعل النظرية تابعة للميتافيزيقا..إن النظرية الفيزيائية ليست تفسيرا، إنها نسق من القضايا الرياضية المستنبطة من عدد قليل من المبادئ، غايتها أن تمثل - بصورة صحيحة - مجموعة من القوانين التجريبية".
   غير أن هذا التصور لن يصمد أمام التطورات العلمية المعاصرة التي فتحت المجال أمام إعادة النظر في مجمل المبادئ التي استندت إليها الوضعية في تحديدها لمفهوم الواقع العلمي ومعيار الصلاحية العلمية،وذلك في سياق تبلور عقلانية جديدة تؤمن بنسبية المعرفة العلمية وتعدد الأشكال التي يأخذها الواقع العلمي...فمفهوم الواقع العلمي سيفقد معناه التقليدي المتمثل في الحسي المباشر(تصور المكان في الهندسات  اللاأقليدية مثلا..)،كما أن التجربة لم تعد تشكل المنبع الوحيد للنظرية ولا معيارا للتحقق منها؛ وذلك لأن النظرية أصبحت من إنشاء العقل الرياضي العلمي، وهي بذلك لا تستمد صلاحيتها من مطابقتها للواقع الملموس بل من الانسجام المنطقي الذي يقوم بين المنطلقات والنتائج، الشيء الذي سيجعل من المنهج       الأكسيومي بديلا عن المنهج التجريبي ...وتندرج ضمن هذا الموقف آراء العديد من الإبستيمولوجيين المعاصرين مثل"بيير تويليي" الذي يعتبر أن صلاحية النظرية العلمية تتوقف على مدى انفتاحها على النظريات الأخرى من أجل تحقيق غنى أكبر،وعدم انغلاقها على ذاتها كحقيقة تدعي اليقين المطلق ...ويعبر"كارل بوبر" عن رأي مشابه من خلال رفضه اعتبار التجربة مقياسا لصحة النظريات على أساس أن النظرية العلمية ليست حقيقة نهائية ومطلقة،بل تبقى نسبية في ارتباطها بالمنطلقات التي تتأسس عليها.ومن ثم يقترح"بوبر" معيار القابلية للتكذيب أو التزييف كمعيار يؤكد انفتاح المعرفة العلمية على التطور والتحول بدل النظر إليها من منظور وضعي إطلاقي.
  وكخلاصة،يتضح أن معايير"العلمية" تتراوح بين مطابقة النظرية للواقع الموضوعي ومعيار التناسق والانسجام المنطقي، وأن التركيز على مقياس دون آخر ليس سوى انعكاسا لاختلاف نظري أو إبستيمولوجي أفرزته طبيعة التطور الذي وسم المعرفة العلمية عبر تاريخها.









Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire