annonce

jeudi 2 février 2017

دروس في الفلسفة السنة الثانية باكلوريا المجزوءة الرابعة ( درس الواجب)



الــواجــب
مدخــل :
     يشير لفظ الواجب إلى ما ينبغي على الفرد القيام به تجاه ذاته أو في علاقته بالغير، فردا أو جماعة، الشيء الذي يجعله مقترنا بالإكراه أو الإلزام، ولكنه إلزام يختلف عن الضرورة الطبيعية التي يتحتم على الإنسان الخضوع لها مثل ضرورة الأكل أو التنفس أو النوم.. فالواجب يظل - رغم إلزاميته - فعلا مرتبطا بتوفر الإرادة والاختيار في أدائه، وهو ما يكشف عن المفارقة التي تجعل من الواجب تعبيرا عن الإكراه الذي نستشعره عندما نجد أنفسنا ملزمين بالقيام بما قد يتعارض مع حريتنا الشخصية من جهة، وتجسيدا لإرادتنا الحرة عندما نؤدي الواجب استجابة لما نلتزم به ونعتبره موافقا لرغبتنا في السمو الأخلاقي من جهة ثانية..     
       وبناء على ذلك، يتأكد أن التفكير في مفهوم الواجب يقتضي تحديد علاقته بالإكراه والحرية، والكشف عن أساس الوعي الأخلاقي بوصفه شرطا لازما لتجسيد الواجب في الممارسة الإنسانية، إضافة إلى إبراز طبيعة العلاقة التي تربط فكرة الواجب بالمجتمع..
 المحور الأول :                       الواجـب والإكــراه
     إذا كان مفهوم الواجب مرتبطا بمعاني الخضوع والطاعة دون أن يخلو من معاني الحرية والإختيار، فكيف تتحدد طبيعة هذه العلاقة في سياق التصورات الفلسفية ؟ هل ينفي الخضوع للواجب حرية الإنسان ؟ وكيف يصبح الواجب تعبيرا عن القدرة وتجسيدا لإرادة حرة لا أثر فيها لأي إكراه ؟.
+  كانــــــط :  الواجب الأخلاقي إكراه حر
    لقد أراد "كانط" أن يضع للسلوك الأخلاقي قانونا يوازي في ضرورته وطابعه الكلي القوانين العلمية الثابتة، بحيث تكون المعايير الخلقية صالحة لكل الناس في كل زمان ومكان. ولذلك يؤكد على أن الفعل الأخلاقي لا ينبغي أن يستند إلى العاطفة أو تكون غايته إرضاء الميول الذاتية لأن ذلك يجعله فعلا مشروطا بالغايات التي يسعى إليها ، بل يجب أن يكون هذا الفعل نابعا من العقل ومرتبطا بالإرادة الخيرة (أو الطيبة) بصورة تجعل منه فعلا لا مشروطا بأية غاية ما عدا الواجب نفسه . وهذا ما يتحقق في الواجب الذي يمثل أمرا مطلقا تحكمه قواعد صارمة تضفي عليه صبغة القانون الأخلاقي الذي يصبح بموجبه الإنسان ملزما بفعل الواجب من أجل الواجب بعيدا عن كل غاية أو ميل ورغبة. فالواجب الكانطي تؤطره القواعد التالية التي تمثل أوامر مطلقة يعبر الالتزام بها عن احترام القانون الأخلاقي :               
         1- " تصرف دائما بحيث تكون قاعدة فعلك قانونا كونيا للتصرف ".                           
         2- " تصرف دائما بحيث تكون مشرعا لنفسك ولغيرك من الناس في مملكة الإرادة ".    
    ويترتب عن ذلك أن فعل الواجب يجب يتوفر على طابع كلي كوني يمنحه القابلية لأن يكون صالحا لجميع الناس، علاوة على كونه فعلا يتوقف على إرادة خيرة تتجه نحو الفضيلة.. 
   ويؤكد "كانط" على أهمية الإرادة الخيرة في بلورة الفعل الأخلاقي القائم على فكرة الواجب المحض، وذلك لأن ما قد يحظى به الإنسان من مواهب الطبيعة (قوة- ذكاء...)، أو من نعم الحظ (مال- سلطة..) لا تعتبر خيرا في ذاتها ما دامت قابلة للإستخدام في ما يمثل الخير أو الشر على حد سواء، ولا تكتسي ، بالنتيجة ، صفة الخير إلا إذا استندت إلى هذه الإرادة الخيرة التي تعمل بمقتضى الواجب دون أي اعتبار آخر..        
           3- " تصرف دائما بشكل تعامل بمقتضاه الإنسانية، في شخص غيرك مثلما في شخصك، باعتبارها غاية لا وسيلة ".                                                   
            فغاية الواجب هي الإنسان ذاته، وهو ما يفرض أن نعتبر الإنسان هو المستفيد من فعلنا، وبالمقابل يصبح الفعل مدانا إذا كانت غايته استغلال الإنسان كوسيلة لتحقيق منفعة خاصة.     
          ومن نتائج هذا التصور أن الواجب الأخلاقي يصبح فعلا إكراهيا مادام يعبر عن الخضوع لقانون أخلاقي عقلي يلزم الإنسان باستبعاد ما يتعارض معه من ميول ذاتية ؛ غير أن الواجب الكانطي يمثل نداء عقليا داخليا يستند إلى إرادة خيرة ويقوم على الاقتناع بدل أن يكون مفروضا على الذات بضغوط  خارجية، الشيء الذي يضفي على الواجب صفة الإلزام والالتزام معا، أو يجعله خضوعا حرا للقانون الأخلاقي.


+ جان ماري غويو :   الواجب الأخلاقي قدرة
   لقد تعرض مفهوم الواجب عند "كانط" لنقد شديد بسبب صرامته وطابعه الصوري المعارض لكل ما هو طبيعي من ميول ورغبات إنسانية لدرجة أن "شوبنهاور" رأى فيه تجسيدا للأخلاق اللاهوتية كما تدل على ذلك عبارته :" إن كانط وأمره المطلق ما هو إلا موسى على جبل سيناء"...وفي هذا السياق يندرج موقف "غويو" الذي يربط الواجب الأخلاقي بالقدرة على الفعل رافضا أن يكون موضوع إكراه وإلزام، حيث يصبح الدافع نحو الواجب هو القدرة على القيام به وفقا لمبدأ "أنا أستطيع، إذن أنا أشعر بواجب" وضدا على المبدأ الكانطي "أنا أشعر بواجب إذن فأنا أستطيع"....فالحياة في تصور"غويو" تمثل قوة توسع وانتشار، أو اندفاعا خلاقا غايته الدفع بالإنسان إلى الخروج من نطاق ذاته والاتجاه نحو الآخرين حيث يجد فرصا أكثر لتصريف طاقاته عبر الاحترام والحب والإخلاص وغيرها من "الواجبات". وبهذا المعنى يتحقق الواجب في ما نستطيع القيام به ، دون إكراه ، استجابة للقوانين الطبيعة للحياة التي تمنح لكل الكائنات قدرات تتناسب مع طبيعة الواجبات الخاصة بها. فمثلما أن النبتة لا يمكنها إلا أن تزدهر حتى وإن كانت النتيجة النهائية لازدهارها هو موتها طبقا للقانون الطبيعي الذي يحدد مسارها، فكذلك الإنسان لا يمكنه أن يمتنع عن الاندفاع نحو الحياة كمجال لممارسة الواجب دون شعور بالضغط أو الخوف من العقاب والطمع في الجزاء، بل يكفي أن يخامرنا الشعور كما يقول "غويو" :"بأننا قد عشنا، وأننا أدينا مهمتنا، وسوف تستمر الحياة بعدنا - من دوننا - ولكن لعل لنا بعض الفضل في هذا الاستمرار".
    هكذا يتبين أن الواجب الأخلاقي قد يمثل إكراها - لا يخلو من حرية - يعبر عن ذاته في الخضوع لقانون أخلاقي داخلي منبعه العقل وأداته الإرادة الطيبة، وذلك في سياق نظرة مثالية تنظر إلى الإنسان في بعده المتعالي عما هو بيولوجي أو غريزي (كانط)، وقد ينظر إليه كفعل يخلو من كل إلزام من زاوية نظر"طبيعية" لا ترى في الأخلاق إلا ما يستجيب لقانون الحياة الذي يدفع بالإنسان إلى الإقبال عليها دون وازع غيبي أو ميتافزيقي (غويو).
المحور الثاني :                 الـــوعي الأخـــــلاقـي
      سواء تم النظر إلى الواجب الأخلاقي كممارسة إلزامية تنطوي على الخضوع لقانون معين أو كفعل تلقائي يخلو من الإكراه ، فإنه يستلزم وجود وعي أخلاقي يسمح بتحديد المعايير التي يتمكن من خلالها الإنسان من التمييز بين ما هو خير أو شر، بين ما يدخل ضمن مفهوم الواجب و الفضيلة وما يناقضهما..فما هو الأساس الذي يقوم عليه الوعي الأخلاقي ؟ هل يمثل معطى فطريا  يتميز به الإنسان، أم يتحدد بعوامل تاريخية من طبيعة اجتماعية واقتصادية ؟
+  روسو :    الوعي الأخلاقي هبة فطرية        
        يؤكد على أن الوعي الأخلاقي المتمثل في قدرة الإنسان على إصدار أحكام معيارية للتمييز بين الخير والشر هو وعي فطري متأصل في طبيعة الإنسان بوصفها طبيعة خيرة. فرغم أن الإنسان مزود غريزيا بأحاسيس فردية ذات طابع بيولوجي من شأن الإعتماد عليها وحدها أن يولد الصراع والتشتت بين الناس (حب الذات، الخوف من الألم والموت...) ،فإنه بالمقابل - وباعتباره كائنا اجتماعيا بطبعه - يتوفر فطريا على الأحاسيس التي تدفعه إلى حب الخير والتآخي مع الآخرين بوصفهم أشباها له..فالوعي الأخلاقي صفة محايثة لطبيعة الإنسان توجد في أعماق كل نفس بشرية، بل يمثل نعمة إلهية تعصمنا من الخطأ في تمييز الخير عن الشر، وبفضلها يسمو الإنسان عن كل الكائنات لدرجة تجعله شبيها بالإله حسب "روسو"..              
+  نيتشه :  الوعي الأخلاقي معطى تاريخي       
       في سياق فلسفته التي شكلت انقلابا جذريا على التصورات التقليدية للمسألة الأخلاقية، يؤسس "نيتشه" الوعي الأخلاقي على مبدأ الصراع أو إرادة القوة من خلال الكشف عن أثر العلاقات التجارية الأولى في نشأته كما تدل على ذلك علاقة الدائن بالمدين. فعجز الأخير عن أداء ما بذمته من ديون للأول كان يستلزم تعويضا يناسب أهمية الدين، ويتخذ شكل إجراء عقابي قد يطال جسده أو شرفه أو حريته، بل وحياته أحيانا كما كان يحدث في مصر القديمة. وهكذا ظهرت معايير أو تقديرات حول طريقة التعويض تكتسي صفة قانونية وتحدد ،بالتالي، نوعية العقاب حسب أهمية الدين(أجزاء أو أطراف الجسم مثلا..)، لتمنح بذلك للدائن سلطة يمارس بها شهوة الإيذاء ولذة التعنيف لينال حظه من حق السادة عندما يغمره إحساس مشرف بأنه قد تمكن من احتقار من هو أدنى منه (العبيد)..فمن قلب هذا الصراع المأساوي انبثقت كل القيم الأخلاقية التي ستتجسد في أخلاق السادة التي ترمز إلى وعي يتلذذ بحب القوة والقسوة، وأخلاق العبيد مع ما يرتبط بها من وعي شقي يقوم على مفاهيم الطاعة والخضوع.. 
    وعموما، إذا كان الوعي الأخلاقي يمثل هبة فطرية تسمو بالإنسان عن مستوى البهيمية في سياق نظرة "روسو" التي لا تخلو من تمثل رومانسي للطبيعة "الخيرة" للإنسان، فإن تصور "نيتشه" يجعل من ظروف الصراع التاريخي بين السادة والعبيد أصلا للوعي الأخلاقي والقيم الأخلاقية في سياق اعتباره "إرادة القوة" جوهرا للطبيعة الإنسانية.
 المحور الثالث :                            الـواجــب والمجتمـع 
   هل يستمد الواجب الأخلاقي سلطته من ضمير جمعي مادام الإنسان كائنا اجتماعيا لا يكتمل وجوده إلا بالعيش المشترك الذي يفرض عليه الانصياع لمنظومة أخلاقية تحددها ثقافة مجتمعه؟ أم أنه نتاج لضمير إنساني يعبر عن السعي إلى الإنعتاق من سلطة المجتمع نحو أخلاق كونية ؟
 +  دوركايم :   الضمير الجمعي كمصدر للواجب  
         من منظور سوسيولوجي، يؤكد "دوركايم" على الدور الحاسم للمجتمع في ترسيخ فكرة الواجب من خلال التنشئة الإجتماعية التي تبث في الأفراد جملة من المشاعر أو المعايير الأخلاقية التي تحدد لهم ما ينبغي فعله وما يجب الامتناع عنه، وهو ما يجعل كل فرد يشعر بنداء داخلي يوجهه نحو فعل الواجب ويوبخه عند تقصيره في أدائه. ولا يعبر هذا الصوت إلا عن الضمير الجمعي الذي ينتهي الأفراد إلى استدماجه عبر التربية ليصبح مكونا أساسيا لذواتهم..ومن ثم يرفض "دوركايم" التفسيرات الأسطورية التي تنسب هذا الصوت الخفي الممثل في الضمير الأخلاقي إلى كائنات علوية، ولا يرى فيه بالمقابل سوى ترديدا لصوت المجتمع وصدى لأوامره ونواهيه.
 +  برجسون :  الضمير الإنساني كمصدر للواجب      
                   يؤكد على أن المجتمع يتوفر على سلطة مؤثرة تؤدي إلى إخضاع الأفراد لأنماط سلوكية في كافة مجالات حياتهم اليومية لدرجة أن استجاباتهم لأوامر المجتمع تطبعها تلقائية تجعل الواجبات تتحقق بشكل آلي لا يبدو فيه أثر للجهد الشخصي. ولذلك يصنف"برجسون" الواجب بهذا المعنى الاجتماعي ضمن الأخلاق المنغلقة التي تظل محدودة بحدود البيئة الإجتماعية التي أنتجتها، وتتقابل - بالنتيجة - مع الأخلاق المنفتحة التي تنزع نحو الكونية مادامت غايتها أداء الواجب نحو الإنسان كإنسان بصرف النظر عن انتمائه المجتمعي. فالواجب الأخلاقي الاجتماعي أو المنغلق من شأنه أن يولد ممارسات منغلقة لا تراعي إلا مصلحة المجتمع الواحد وتنطوي بالتالي على دواعي الصراع بين المجتمعات كما تدل على ذلك حالة الحرب بوصفها مثالا صارخا على زيف الأخلاق المنغلقة، في حين أن الواجب بمعناه الكوني يسمح بترسيخ قيم السلم والتسامح بين أفراد النوع الإنساني، الأمر الذي يؤكد ضرورة الارتفاع بمفهوم الواجب إلى مستواه الكوني الإنساني والتحرر من أخلاق منغلقة لا تعبر إلا عن حضور سلطة المجتمع في ضمائر أفراده. 
         يتبين إذن أن الواجب الأخلاقي قد يكون نتاجا طبيعيا لسلطة المجتمع باعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي يضطر إلى التلاؤم مع نمط القيم السائد كشرط للإندماج الاجتماعي كما تؤكد ذلك المقاربة السوسيولوجية (دوركايم)، وقد يتم تجاوز هذا المعنى الاجتماعي عندما ينظر إلى الواجب الأخلاقي في بعده الإنساني الذي يكشف عن طموح الفرد إلى الإنعتاق من محدودية الأخلاق المنغلقة أو التعالي عن شرطه الاجتماعي (برجسون).

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire