المجزوءة الأولى:
الوضع البشري
يحيل مفهوم
الوضع البشري على مختلف الشروط و المحددات التي يتأطر ضمنها وجودا الإنسان
ومصيره، أي العوامل التي تتدخل في تحديد طبيعة الوجود الإنساني ... و بالنظر إلى
تعدد و اختلاف المستويات التي تحكم وجود الإنسان، فإن التفكير في مفهوم الوضع
البشري يقتضي استحضار عدة مفاهيم تشكل عناصر البنية التي تحدد ضمنها وجود الإنسان.
فالإنسان أولا عبارة عن ذات متميزة عن الكائنات الأخرى مما يجعلها تتوفر على
مواصفات تتعلق بقدرة الإنسان على الوعي بذاته أو هويته الشخصية و تمتعه بمكانته أو
قيمة أخلاقية، علاوة على كونه كائنا اجتماعيا (مفهوم الشخص)... غير أن وجود
الإنسان لا يحمل طابعا ذاتيا فقط، بل يتدخل
في تحديد وجود الذات، وذلك لكون الوجود الإنساني عبارة عن وجود علائقي يفترض الانفتاح على الآخرين بدل التقوقع في عزلة ذاته بطولية (مفهوم الغير) و أخيرا
فالإنسان ذو بعد زمني يجعل منه سيرورة فردية أو جماعية تتجلى في ارتباط الإنسان
بالأوضاع التاريخية و تفاعله من التغيرات الزمنية. الشيء الذي يجعل التاريخ أحد
المحددات التي تتدخل في بلورة حياة الإنسان (مفهوم التاريخ).
فكيف إذن يمكن تحديد أثر كل هذه العوامل في تمييز وجود
الإنسان ؟
وبمعنى آخر كيف يمكن فهم تضافر كل من الشخص و الغير و
التاريخ في تحديد الوضع البشري؟
مفهوم الشخص
· حول المفهوم:
يرتبط
مفهوم الشخص بشكل أساسي بالإنسان بوصفه
كائن متميز عن باقي الكائنات الأخرى، بما
يختص به من وعي و إرادة و مسؤولية و حرية.
فمنذ
أن بدأ التفكير في حقيقة الإنسان، توجه الاهتمام نحو البحث عن الخصائص التي أصبح
الإنسان متميزا بفضلها عن باقي الكائنات الحية الأخرى. فمفهوم الشخص إذن يحمل
طابعا ميتافيزيقيا لكونه يشير إلى المحددات الفوق طبيعية التي تميز الإنسان
مستعينا في نفس الوقت بالعناصر الطبيعية التي تخص الكائنات الأخرى. و النظرة إلى
الإنسان بوصفه شخصا يتضمن التأكيد على
توفر كل فرد على هويته الشخصية التي يستمدها من شعوره أو وعيه أو من بعده الروحي
الداخلي. كما يعني ذلك أيضا أن الإنسان باعتباره شخصا يتوفر على قيمة وكرامة يكون
مصدرها كفاءته العقلية أو بعده الأخلاقي العملي...
غير
أن التصور اليوناني عموما حول الإنسان لم يبلغ مستوى التفكير في كرامة و قيمة
الإنسان في ذاته و بغض النظر عن مكانته الاجتماعية و السياسية. و هذا ما يكشف عنه
الموقف الإقصائي للثقافة اليونانية تجاه الأجانب و العبيد كفئة لا تتمتع بحقوق
مدنية، مقارنة مع المواطن اليوناني. أما في العصور الحديثة ،التي تميزت بصحوة
فلسفية مثلثها فلسفة الأنوار، فسنجد مفهوم الإنسان باعتباره شخصا يتوفر على وعي و
إرادة و حرية و مسؤولية في ذاته قد بدأ في التبلور بداية مع الفلسفة الديكارتية قبل
أن تكتمل هذه النظرة مع فلسفة كانط في القرن الثامن عشر.... ففي سياق التطور
الديكارتي القائم على الشك المنهجي و معيار البداهة و الوضوح العقليين، ستظهر فكرة
الإنسان العاقل الذي يستطيع بلوغ معرفة يقينية استنادا على عقله فقط ودون الخضوع
لوصاية خارجية. ففكرة "الكوجيطو" تنطوي على اعتبار الإنسان كائن جوهره التفكير و الوعي، الشيء الذي يضفي عليه
مكانة تتمثل في حريته أو استقلاله بذاته و تشكيله لماهية متميزة عن الكائنات
الأخرى.
و
مع كانط تكتمل النظرة الحديثة إلى الإنسان من خلال إضفاء طابع أخلاقي على طبيعة
الشخص و تصرفاته، فالإنسان في التصور الكانطي يتحدد، ليس بالعقل النظري و فقط و
الذي يمكن منه إنتاج المعرفة كما رأى
ديكارت، بل أساسه العقل العملي الأخلاقي الذي يملي عليه المبادئ الأخلاقية التي
ينبغي التقيد بها، وأهم هذه المبادئ
القاعدة الأخلاقية التي تدفع الإنسان إلى السعي
وراء الخير المطلق عندما يعتبر نفسه و الآخرين غايات و ليس مجرد وسائل،
وهذا ما تعبر عنه قولة "كانط" " تصرف على نحو تعامل معه
الإنسانية في شخصك، كما في شخص غيرك،
كغاية دائما و أبدا، وليس مجرد وسيلة البتة".
قضايا
و أطروحات:
المحور
الأول: الشخص و الهوية.
· الإشكالية: في الحياة اليومية العادية، يشعر الإنسان
بشكل حدسي مباشر بأن له هوية واحدة تظل ثابتة و مطابقة لذاتها رغم التحولات التي
تطرأ على الفرد من الناحية الجسمية أو النفسية و عادة ما يعبر كل منا عن هذه
الهوية بضمير " الأنا".. و من ثم فإن التساؤل عن" الهوية
الشخصية" يبدو غير ذي فائدة بالنسبة
للإنسان العادي الذي تمثل لديه
هذه الهوية حقيقة بديهية لا تحتاج إلى التأمل و التفكير،
غبر أن هذه الوحدة المزعومة تطرح أسئلة متعددة شكلت موضوع اهتمام الخطاب الفلسفي
بوصفه تفكيرا قائما على وضع "البداهات" موضعا للفحص و مجالا تميز بجعل
ماهية الإنسان موضوعا للبحث و التأمل... فما هو الأساس الذي تنبني عليه "
الهوية الشخصية"؟ هل تتمثل هذه الهوية في وعي مجرد عن الإحساس /
الجسد(ديكارت)، أم هي عبارة عن سيرورة أو عملية مرتبطة بالشعور و الذاكرة؟ و ما
طبيعة العلاقة بين الهوية و ألإرادة؟
· التصورات:
لقد تميزت الفلسفة منذ
نشأتها بالتفكير في حقيقة الإنسان منتجة بذلك تصورات متعددة تتباين انطلاقا من المنظور الذي يعتمده
الفيلسوف في النظر إلى المسألة، فمنذ قولة سقراط "اعرف نفسك بنفسك"
اتجهت الفلسفة إلى البحث في ما يمني الإنسان و يصبح أساسا لتحديد ماهيته. و من أهم
هذه المواقف:
+ ديكارت:
تعد فلسفة ديكارت من أهم
الفلسفات التي أسست حقيقة الإنسان على
"الوعي" أو العقل و جعلت منه العنصر الأساسي والجوهري في تحديد أو تفسير
الماهية الإنسانية... ففي التصور الديكارتي
المرتكز على حقيقة الكوجيطو كحقيقة لا يعتريها الشك تبرز فكرة الوعي بالذات
و بطبيعتها المفكرة التي تجعلها متميزة عن بقية الموجودات، فالأنا أفكر أو الذات
المفكرة هي ما يشكل الهوية الشخصية للإنسان نظرا لكونها الحقيقة اليقينية التي
تتمخض عنها تجربة الشك و بعبارة أخرى، إن الإنسان في فلسفة ديكارت يملك هوية
جوهرها تفكير أو الوعي، وهو يدرك هذه الهوية كحقيقة واضحة و بديهية للعقل من خلال
عملية الشك أو التفكير.
هكذا تقدم الفلسفة ديكارت
الهوية الشخصية للإنسان كجوهر قائم بذاته أو ككيان مكتمل البناء يتم الوعي به من
خلال استنباط الإنسان لذاته ليكشف عن طبيعتها المفكرة.
ملحوظة: يقصد بفكرة
الكوجيطو حقيقة الذات كما تصورها ديكارت و التي تتمثل في خاصية التفكير أو الوعي و
عادة ما يعبر عن الكوجيطو الديكارتي بما يلي:" من الواجب أن أشك في كل شيء و
لكن الشيء الذي لا يمكنني أن أشك فيه هو أنني أشك، وبما أنني اشك فأنا أفكر ، وبما
أنني أفكر فأنا موجود."
+ جون لوك:
عرف
عن الفلاسفة التجريبيين رفضهم القاطع للموقف العقلاني بصدد مصدر المعرفة فبينما
أكد العقلانيون على القيمة المطلقة للعقا اعتبره التجريبيون مجرد صفحة بيضاء تنقش
عليها التجربة الحسية معارفنا و أفكارنا، وبناءا على هذا التصور للمعرفة بوصفها
نتاجا لتجربة حسية يعتبر جون لوك أن المعرفة التي يحصدها الإنسان حول نفسه هي نتاج
لحالاته الشعورية، و من ثم فإن ما يجعل الشخص يدرك ذاته عبر أزمنة و أمكنة مختلفة
هو الوعي أو المعرفة التي تتولد عن مختلف الإحساسات ( سمع/ لمس/ شم/ يصر...) بجانب الشعور أو
الإحساس كأساس في الهوية الشخصية تقوم الذاكرة بربط الخبرات الشعورية الماضية
بالخبرة الحالية و تعطي بالتالي للوعي بالذات استمرارية في الزمان.
و
هكذا تكون المعرفة عموما، و الوعي بالذات أو الهوية بشكل خاص رهين بما تمدنا
به الإحساسات المرتبطة بالمؤثرات
الخارجية، الشيء الذي يجعل الهوية الشخصية عبارة عن سيرورة مصاحبة للشعور و
الذاكرة لا كيانا مجرد أو ميتافيزيقيا كما
تصوره ديكارت.
إن
المواقف السابقة رغم اختلافها حول مصدر المعرفة أو الوعي، تبقى مشدودة إلى التصور
الفلسفي التقليدي الذي يقر بالوعي كحقيقة جوهرية للإنسان و خاصية تميزه عن بقية
الكائنات. و مع بروز الفلسفة المعاصرة
سيتعرض هذا المنظور للنقد و التشكيك من
خلا ل رفض الطابع المطلق الذي تم إضفاؤه على العقل مقابل استبعاد مكونات أخرى
تنتمي إلى الجسد و الغريزة أو إلى اللا وعي.
+
شوبنهاور:
لقد
درج الفلاسفة التقليديون على النظر إلى الإنسان ككائن عاقل يمثل الوعي خاصيته
الجوهرية و المصدر الوحيد لسلوكه و تفكيره، أما ما هو لا عقلي (غريزة/ جسد...)
فكان يتم استبعاده في إطار هذه النظرة
العقلانية و هذا ما سيضفي على ماهية الإنسان طابعا ميتافيزيقيا متعاليا عن
الطبيعة.
و
بخلاف ذلك اتجهت فلسفات معاصرة إلى
الكشف عن عناصر جديدة لها أثرها في السلوك
الإنساني مثل الجنس و الإرادة و اللاشعور، وفي هذا السياق تندرج فلسفة شوبنهاور
التي تقوم على نزعة تشاؤمية قوامها الدعوة
إلى نبذ الحياة. فهو يرى أن المحرك الأساسي
لسلوك الإنسان – تفكيرا و ممارسة – هو إرادة الحياة التي تدفع الإنسان بشكل مستمر
إلى السعي وراء أهداف و غايات مختلفة، يرى في تحقيقها سعادته سرعان ما ينكشف له
طابعها الوهمي. فالتجدد المستمر لرغبة يجعل السعادة مستحيلة، و الأهداف التي يتم
السعي وراءها لا يمكنها تحقيق الإشباع الكامل لنشاط الإرادة اللانهائية. و بذلك
تصبح الحياة مأساة و الإرادة منبعا للألم و الشقاء... أما العقل أو الوعي فليس جوهر الإنسان " كما اعتقد
ديكارت" و لا دليل على وجوده، فهو لا يعدو أن يكون مجرد لعبة في يد هذه القوة
الجبارة التي تمثلها إرادة الحياة التي تصبح بالنتيجة جوهر الوجود الإنساني.
استنتاج:
يتبين
إذن أن الإنسان بوصفه شخص، يمتلك هوية ثابتة
أساسها الوعي، إن الشعور و الذاكرة
أو إرادة الحياة . ويبقى الاختلاف بين
الفلسفات حول تحديد طبيعة الهوية الشخصية نظرا لتباين المنظورات المعتمدة(
عقلانية/ تجريبية/ تشاؤمية...)
المحور
الثاني : الشخص بوصفه قيمة.
يتأكد
إذن أن الإنسان بوصفه شخصا هو ذات لها هويتها الخاصة التي تتمثل في مفهوم (الأنا)
كجوهر ثابت يتحقق من خلاله و ماهية الإنسان بوجوده أو بذاته. و ذلك بغض النظر عن
اختلاف الفلاسفة حول طبيعة و أساس هذه الهوية تبعا للمنظور المعتمد في النظر إلى
ماهية الإنسان (الوعي عند العقلانيين/ الشعور و الذاكرة عند التجريبيين/ إرادة
الحياة عند شوبنهاور).
غير
أن معنى الشخص يمتد أيضا إلى البعد الأخلاقي بوصفه أحد المميزات التي يختص بها
الإنسان و يتسامى بها عن الموجودات الطبيعية.
و اعتبار الإنسان شخص أخلاقي يعني توفره على وعي أخلاقي يجعله قادرا على
التمييز بين الخير و الشر، و على الالتزام في سلوكه العملي بالمبادئ الأخلاقية مما
يجعله مسؤولا عن ما يصدر عنه من أفعال، وبهذا المعنى يصبح الشخص ذات حقوقية و موضوعا للواجب في نفس
الوقت، فعلى ماذا يتأسس البعد الأخلاقي للشخص؟ و هل ترجع القيمة الأخلاقية إلى ما
يميز ذاته في استقلال عن الغير أم إلى
علاقاته مع الآخرين داخل المجموعة البشرية؟
1/
كانط
لقد
اعتبر كانط أن قيمة الإنسان الحقيقية تكمن في توفره على عقل عملي أخلاقي يكون
منبعا لتصرفاته، وهو عقل حامل لقواعد أخلاقية تتخذ صفة الواجب أو الأمر المطلق، و
ينتج عن الالتزام بهذه القواعد إضفاء كرامة داخلية مطلقة على الشخص الذي يصبح بفضل
ذلك غاية في ذاته و ليس مجرد وسيلة لتحقيق غاياته الخاصة أو غايات الآخرين.
هكذا
فقيمة الإنسان في تصور كانط لا تنبني فقط على ما يمتلكه من قدرة على الفهم( الوعي
بالمعنى الديكارتي)، بل تتأسس قيمته على تكوينه الأخلاقي الذي يجعل كل فرد موضوع
احترام و تقدير سواء من طرف ذاته أو من قبل الآخرين. فعندما يخضع الإنسان للأمر
المطلق يتجاوز كينونته الطبيعية و يصبح شخصا
تتجاوز قيمته كل سعر لكونه يمثل غاية و
ليس وسيلة كبقية الموجودات أو الأشياء.
و
ما يلاحظ حول التصور الكانطي هو طابعه المثالي الذي يقدم صورة مجردة أو
ميتافيزيقية عن الإنسان، وذلك لأن غاية فلسفة كانط هي الدفع بالإنسان إلى تجاوز
الغايات النفعية العملية التي تجعل منه مجرد وسيلة و تضفي عليه قيمة خارجية نفعية
نحو الغايات الإنسانية التي يجسدها الواجب المطلق، والتي تضفي على الإنسان قيمة
داخلية مطلقة تجعل منه غاية في ذاته.
2/ جورج غوسدورف:
قدمت
الفلسفات الحديثة( ديكارت/ كانط مثلا) صورة مجردة عن الإنسان قوامها النظر إليه
كذات تتوفر على ماهية مطلقة و قبلية لا تتأثر بالاختلافات الفردية أو الجماعية . و هي صورة يتعذر على
ألإنسان العادي أن يجد نفسه فيها بسبب طابعها المثالي الذي لا يتلاءم مع الوجود الواقعي للإنسان كفرد
يتأثر بالآخرين و بالمجتمع، وتفرض عليه حياته المعيشية طابعا نسبيا.
و
قد تعرض هذا المنظور الفلسفي للنقد مع بروز فلسفات معاصرة( القرن 19 و 20) اتجهت
نحو التركيز على البعد الواقعي لوجود الإنسان محاولة فهم حقيقته في إطار التجربة المعيشية أو
الواقعية ، من هنا سنجد ما في الفلسفة المعاصرة اهتماما بالكشف عن الأبعاد أو
المقومات التي تم استبعادها في التصورات السابقة( الغريزة و الرغبة و الجسد/
العلاقة مع الغير و المجتمع...) و في هذا السياق يندرج رأي الفيلسوف الفرنسي
غوسدورف حول قيمة الشخص، فهو يؤكد على أن فكرة الإنسان المستقل بذاته، كما تجسدت
في الفلسفة الحديثة من خلال الذات المفكرة(ديكارت) أو الشخص الأخلاقي(كانط) هي
فكرة مثالية لا تستقيم مع طبيعة الوجود الواقعي للإنسان.
فالإنسان
لا يعيش في عزلة مطلقة أو في حالة استكفاء يستغني فيها عن الآخرين، بل يرتبط وجوده
بعلاقات التضامن و المشاركة و الانفتاح على الغير. بمعنى آخر أن قيمة الإنسان
الأخلاقية لا تنبع من كونه فردا يعي ذاته في استقلالها المطلق عن الآخرين، بل
تتحدد هذه القيمة في كونه شخصا يكتمل من خلال علاقته بالآخرين على أساس المشاركة و
تقبل الغير. فالكمال الأخلاقي للشخص لا يتحقق إلا في علاقات التعايش داخل المجموعة
البشرية، و مدى استعداد الذات للانفتاح على الغير و الدخول معه في أشكاله المختلفة من التضامن الذي يبرز الماهية الأخلاقية
للإنسان.
تركيب:
هكذا
يتبين أن البعد الأخلاقي يمثل أحد المقومات الأساسية لمفهوم الشخص، بحيث يستحيل
التفكير في هذا المفهوم دون استحضار هذا البعد، ورغم أن هذا التفكير أساس أو منبع
هذا البعد الأخلاقي يكشف عن تنوع الإجابات أو المقاربات، فإنها في
النهاية تكشف عن تعدد مستويات النظرة إلى حقيقة الإنسان. و من ثمة
فالاختلاف بين المنظور الحديث الذي يؤسس الوعي الأخلاقي على مستوى ذاتي تمثله فكرة
الشخص الأخلاقية عند كانط، وبين المنظور المعاصر الذي يتجه نحو التركيز على البعد
العلائقي للإنسان كأساس لتكونه الأخلاقي، فهو اختلاف يجب تفسيره في تباين
المنطلقات الفكرية لكل منظور.
3/
الشخص بين الضرورة والحرية.
لقدتم
النظر إلى الإنسان في إطار الفلسفة التقليدية(من أفلاطون إلى ديكارت و كانط) نظرة
ميتافيزيقية أساسها اعتبار الذات الإنسانية متميزة و متعالية عن بقية الموجودات
بفضل ما تختص به من وعي و إرادة و حرية و مسؤولية، فالفيلسوف التقليدي لم يكن يرى
في ماهية الإنسان سوى ما يجعلها تستبعد كل عنصر طبيعي مقابل وعي و إرادة(نجد ذلك
مثلا في تصور أفلاطون حول خلود النفس، وعند ديكارت في فكرة الكوجيطو، و في فكرة
العقل الأخلاقي عند كانط).
غير
أن هذا التصور سيبدأ في التراجع أمام تبلور نظرة علمية اتجهت نحو إنزاله من سماءه
الوهمية لكي تربطه بجذوره الطبيعية
أولا و الاجتماعية لاحقا، فلم يكن من
اللازم انتظار ولادة العلوم الإنسانية لكي تنكشف فكرة حتمية أو الضرورة التي تحكم
الإنسان في الخطاب العلمي، بل نجد أن العلوم الطبيعية قد افتتحت هذا الدرب من خلال
ما خلفته نظرياتها الفلكية(كوبيرنيك) و
الفيزيائية (الجاذبية / نيوتن) و البيولوجية (داروين).
ومع
بروز العلوم الإنسانية(القرن 20) ستترسخ هذه النظرة الحتمية إلى الإنسان الذي سيصبح بمثابة بنية نفسية و اجتماعية تحددها عوامل خارجية عن
إرادة الفرد و حريته. ومن زاوية نظر التحليل النفسي(فرويد) يكون البناء النفسي
للفرد نتيجة حتمية لخبراته الطفولية التي تكون مصدرا لنشأة عقد نفسية نتيجة كبت
رغبات الطفل خلال مسلسل النمو النفسي و الجنسي( المرحلة الفمية) كما أن معظم
السلوكات التي تصدر عن الفرد تحركها دوافع لا شعورية ذات طبيعة جنسية. بالإضافة
إلى الحتمية السيكولوجية، نجد علماء الاجتماع و الأنتروبولوجيا يؤكدون على دور
الشروط السوسيو ثقافية في تحديد شخصية الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية يتم ترسيخ
قيم ومبادئ المجتمع في شخصيات افرادها، بحيث ينتج عن ذلك وجود نمطين متداخلين من
الشخصية عند كل الأفراد أحدهما يعكس القيم العامة و المشتركة لثقافة المجتمع
(الشخصية الأساسية) و الآخر يعكس الخصائص التي يستمدها الفرد من انتماءه داخل
المجتمع (الشخصية الوظيفية)، كما أن
الأحكام الفكرية التي يتبناها الأفراد في حيلتهم اليومية هي نتاج لأثر(الضمير
الجمعي) الذي يمثل سلطة أخلاقية و اجتماعية يتم ترسيخها لدى الأفراد عن طريق
التربية و التعليم. و بذلك يصبح شخصية الإنسان مرآة تنعكس فيها طبيعة الثقافة التي
تميز مجتمعه. الشيء الذي يؤكد وجود حتمية اجتماعية وثقافية تفقد الإنسان كل سلطة
أو نفوذ على ذاته و بسبب تمسك النظرة العلمية بهذا التفسير للسلوك الإنساني ، والذي يقوم على نفي حرية و فعالية
الفرد أمام البنيات النفسية والاجتماعية . اعتبر بعض الدارسين أن هذه النزعة
العلمية هي نزعة لا إنسانية لكونها تؤدي إلى اختفاء أو موت الذات أمام الحضور
القوي للعوامل النفسية و الاجتماعية.
أمام
هذه النزعة الحتمية التي ميزت الخطاب العلمي حول الإنسان، برزت اتجاهات فلسفية
معاصرة تحملت مسؤولية إعادة الاعتبار للذات الحرة والفاعلة التي تم إقصاؤها في
سياق المقاربة العلمية، فالفلسفة الوجودية
مثلا دافعت بشكل عميق عن حرية الفرد رافضة خضوعه لأية سلطة خارجية و خصوصا عندما
تتمثل في المؤسسات (الأسرة/ المجتمع /
الدولة/ الحزب...) و المبدأ الأساسي الذي ارتكزت عليه الفلسفة الوجودية هو اعتبار
أن (وجود الإنسان يسبق ماهيته) بخلاف الأشياء أو الحيوانات التي تتحدد ماهيتها
بشكل قبلي سابق على وجودها. فالإنسان بالنسبة "لسارتر" هو الكائن الوحيد
الذي يوجد و هو غير حامل لأية صفات أو ماهية
قبلية بل بالعكس فهو يكون في البدء عبارة عن لاشيء ثم يشرع في تأسيس ذاته وفق ما
تقتضيه مشيئته أو إرادته، فعلى عكس الطاولة
أو الحيوان الدين يتخذ وجودهما شكلا خطيا انطلاقا من ماهيتها القبلية فإن
الإنسان يفتقر إلى مثل هذه الماهية التي قد تسمح بتعريفه أو تحديد شخصيته على نحو
قبلي مسبق.
و
عموما فالإنسان يعتبر مشروعا لا يعرف الاكتمال لأنه يتحدد بما يختار القيام به،
مما يجعل تعريفه بشكل نهائي غير ممكن. وبذلك يتبين أن ما يميز الإنسان كشخص هو
قدرته على تحديد ذاته و مصدره بنفسه، فالبطل هو الذي يصنع من نفسه بطلا و الجبان
هو الذي يجعل من نفسه جبانا.
و
رغم أن الإنسان يتعرض لإكراهات موضوعية
تتولد من سلطة البنيات النفسية و الاجتماعية
كما تتبث ذلك العلوم الإنسانية فإن ذلك لا يعني عند الوجوديين فقدانا
للحرية الذاتية والقدرة على الاختيار. فليست الشروط الموضوعية والإكراهات الخارجية سوى تحديات أمام
قدرة الإنسان على تجاوزها أو التعالي عليها من خلال طبيعة اختياراته. فالصخرة مثلا
تمثل عائقا موضوعيا قد يمنعني من مواصلة السير، غير أن ما أختار القيام به هو الذي
يمنح المعنى لموقف الإنسان و يكشف عن حريته، ذلك أنني قد أعمد إلى إزاحة الصخرة
لمواصلة الطريق أو قد أصعد فوقها لمشاهدة منظر معين. فالاختيار الحر هو الذي يحدد
موقف الإنسان في علاقته بالشروط الخارجية التي قد تعوق حريتها.
وعموما
فقد تميزت الفلسفة الوجودية بإضفاء طابع فردي و متغير على ماهية الإنسان وذلك
بناءا على تأكيدها بأن جوهر الإنسان هو قدرته على الاختيار الحر، الشيء الذي يجعل
من ماهية الإنسان غير قابلة لتحديد قبلي أو نهائي نظرا لانفتاحها المستمر على
إمكانيات متعددة.
و
من زاوية الفلسفة " الشخصانية" التي تؤكد على القيمة المطلقة للشخص بوصفه
الكائن الأسمى في الكون، تتحدد رغبة
الإنسان في سياق علاقته بالغير و بالإنسانية ككل. فالشخص لا يحقق حريته إلا
في إطار ما يسميه أقطاب هذه الفلسفة " بالتشخصن" الذي يعني خروج الذات من فرديتها و عزلتها لتنفتح على
العالم طبقا لنداء الإنسانية الذي يقتضي من الشخص الدخول مع الغير في علاقة قوامها
التواصل و المشاركة. فالحرية في منظور
الشخصانيين تبقى حرية مشروطة بالانفتاح
على الغير أو حرية منظمة أساسها
الالتزام باحترام الغير والقيم
الإنسانية. و هذا ما يعبر عنه "مونييه" كممثل للشخصانية في الفكر
الفرنسي، حيث يؤكد على ضرورة ربط حرية الشخص بالشروط الواقعية التي تجعل الإنسان
لا يحقق حريته إلا في إطار الخروج من الذات الفردية نحو الالتزام بمصير الآخرين.
وعموما تعتبر الشخصانية فلسفة تؤكد على
قيمة الشخص و ضرورة تقديره كتعبير عن رفضها لكل نزعة في الهيمنة و السيطرة سواء
تعلق الأمر بسلطة الأشخاص أو المؤسسات.
و
هكذا يتبين أن الشخص يتحدد ككائن مريد و حر سواء كانت حريته تتجه نحو الاستجابة
للنوازع الفردية و الاختيارات الذاتية كما
يرى الوجوديون أو كانت حرية مرهونة بالانفتاح على الغير في إطار التضامن و
المشاركة كما يرى الشخصانيون.
خاتمة:
يتبين
أن مفهوم الشخص يحمل طابعا إشكاليا لكونه يثير العديد من القضايا التي تختلف
بصددها التصورات أو الخطابات الفلسفية( الهوية/ البعد الأخلاقي/ الحرية...) و هو
مفهوم يحيل على جملة من الخصائص التي أكدت عليها مختلف المقاربات مثل الوعي بالذات
و المسؤولية الأخلاقية و حرية الإرادة. الشيء الذي يبرز الصعوبات التي يواجهها
الموقف لإي إطار التطور الشامل للمجتمع الأوروبي و البشري بشكل عام. و انطلاقا من
الجدال الراهن حول العديد من القضايا المرتبطة بحقوق الإنسان و الطبيعة (الموت
الرحيم/ الإجهاض/ حقوق الحيوان...) أصبحنا أمام مقاربات تستهدف توسيع مجال مفهوم
الشخص بحيث يتجاوز معناه الوعي و الأخلاق لينفتح
على الإنسان عموما بما فيه من يفتقر إلى ذلك( الجنين/ الرضيع... الخ).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire