annonce

jeudi 2 février 2017

دروس الفلسفة السنة الثانية باكلوريا ( درس العلوم الإنسانية )



 العلوم الإنسانية
تقديم:
     يشير مصطلح العلوم الإنسانية إلى مجموعة من العلوم التي تتخذ الإنسان كموضوع للدراسة بهدف الكشف عن أبعاده المختلفة (نفسية – اجتماعية – اقتصادية ....)، أو التي تشكل الظواهر الإنسانية مجال بحثها، وهي حديثة العهد مقارنة مع علوم الطبيعة...فإذا كان ما يعبر عنه باستقلال العلوم عن الفلسفة قد تجسد - ما بين ق16 و 18-  في تأسيس العلوم الطبيعية كتعبير عن نقل الظواهر الطبيعية إلى دائرة الاهتمام العلمي وتحريرها من التصورات الميتافيزيقية ، فإن الظواهر الإنسانية لم تعرف بدايتها العلمية إلا في مرحلة متأخرة (ق19/20) بعد فترة طويلة ظلت فيها موضوعا للتأمل الفلسفي...وقد ساهم هذا التأخر التاريخي، الذي حتمه منطق التطور العلمي، في جعل نشأة العلوم الإنسانية ذات طبيعة إشكالية نظرا لما سيترتب عنها من قضايا نظرية ومنهجية خصوصا في ظل تأثير النموذج الفيزيائي/التجريبي الذي تبلور في سياق تطور العلوم الطبيعية، وتتجلى في مدى قدرة علوم الإنسان على استيفاء شروط علميتها.
 +  فإلى أي حد يمكن أن تكون الظواهر الإنسانية موضوع معرفة علمية – موضوعية تحقق للعلوم الإنسانية شرط العلمية؟
 +  وهل تمثل هذه الظواهر مجالا ملائما للتفسير كما تمت ممارسته في العلوم "الحقة"، أم أن الفهم يصبح ضروريا في مقاربتها؟
+  وما هو النموذج الذي يحقق العلمية المنشودة للعلوم الإنسانية؟  
 
المحور الأول:               موضعة الظاهرة الإنسانية

                 إذا كانت الموضوعية تقتضي استبعاد الدارس للأحكام التي تستند إلى دوافع  ذاتية  تعبر عن الميول والمصالح، أو تبني الحياد إزاء موضوع البحث سعيا وراء إدراك الواقع كما هو، فهل تستطيع العلوم الإنسانية توفير هذا الشرط اللازم لتحقيق علميتها، أم أن خصوصية الظاهرة الإنسانية تجعل من الموضوعية مشكلا إبستيمولوجيا داخل هذا الحقل العلمي ؟                
                بفضل ما تتسم به الظواهر الطبيعية من طابع خارجي يجعلها مستقلة عن الذات العارفة، استطاعت العلوم الطبيعية - عند نشأتها - أن توفر شرط الموضوعـــية الذي أعــطى لنتائجها مصــداقية لا يختلف حولها الدارسون، وجعل منها تعبيرا عن القطيعة مع التصورات اللاهوتية والميتافيزيقية حول عالم الطبيعة.. وتحت تأثير هذا النجاح، حــــاول أوائـــــل المهتمين بالظواهر الإنسانية استلهام هذا النموذج العلمي بهدف إنتاج معرفة علمية - موضوعية تسمح بتحرير قارة الإنسان من سلطة التصورات اللاعلمية مثلما حدث مع قارة الطبيعة.  
             وهذا هو الموقف الذي تبنته النزعة الوضعية من خلال تأكيدها على إمكانية دراسة الإنسان بطريقة علمية تضمن الموضوعية عن طريق تطبيق المنهج التجريبي، سواء تعلق الأمر بالظواهر النفسية (المدرسة السلوكية مع "جون واطسون" في أمريكا)، أو بالظواهر الاجتماعية (المدرسة الوضعية في فرنسا مع "سان سيمون" و"أوغست كونت" و"دوركايم").                                                      
            فبخصوص الظواهر الإجتماعية، اتفق أقطاب الوضعية (الفرنسية) على الدعوة إلى إخضاعها للدراسة العلمية من خلال التعامل معها ك"أشياء" أو موضوعات لها وجودها الخارجي المستقل عن الذات، قابلة للملاحظة والتجريب، وتخضع - مثل ظواهر الطبيعة - لقوانين ثابتة يمكن الكشف عنها. وذلك ما تعبر عنه قولة رائد هذا التيار"أوغست كونت" :" القوانين الطبيعية تحدد تطور الجنس البشري مثلما يحدد قانون الطبيعة سقوط الحجر"...وقد أسس "كونـت" عـلم الاجتماع أو "السوسيـولـوجيا" معتـبرا إياها بمثابة "فيزياء اجتماعية"؛ وأكد على ضرورة دراسة الظاهرة الاجتماعية بطريقة علمية/وضعية تمكن من تحريرها من وصاية اللاهوت والميتافيزيقا أسوة بما حصل في ميدان الفلك والفيزياء مع الظاهرة الطبيعية، وذلك في سياق التطور الذي يفرضه قانون "الحالات الثلاث" الذي اشتهر به (المرحلة اللاهوتية / المرحلة الميتافيزيقية / المرحلة الوضعية)...      
            وبالمثل، يدعو تلميذه "إميل دوركايم" إلى التخلي عن التصورات الذاتية أو الأحكام المسبقة عند دراسة الظواهر الاجتماعية،وذلك على اعتبار أنها ظواهر تتوفر على وجود موضوعي مستقل كما يدل على ذلك طابعها القهري أو الإلزامي.
            وعموما، فالنزعة الوضعية تقيم تطابقا تاما بين الظواهر الطبيعية والإنسانية بناء على تقليدها للنموذج التجريبي الذي نظرت إليه كنموذج مكتمل ونهائي؛ وبذلك تتقابل مع الموقف الذي يؤكد على خصوصية الظاهرة الإنسانية وعدم قابليتها لتطبيق المنهج التجريبي أو تحقيق الموضوعية كما تحددت صورتها في علوم الطبيعة...  فبصدد مبدأ الموضوعية، يعتبر"ج - بياجي" أن وضعية العلوم الإنسانية تتسم بالتعقيد الناتج عن التداخل بين الذات والموضوع مما يضفي الصعوبة على مسألة الحياد أو إزاحة تمركز الذات، لأن الباحث يكون ملتزما بموقف فلسفي أو إيديولوجي يمليه عليه انتماؤه للمجتمع الذي يقوم بدراسته....كما يؤكد "ف- باستيان"،على نفس المنوال، أن الباحث الاجتماعي لا يستطيع الانفصال عن مجتمعه الذي يشكل في نفس الوقت موضوع دراسته.  فالانتماء الطبقي - الاجتماعي أو المهني أو القومي للباحث يجعله منخرطا في صراعات مكشوفة أو خفية تفتح المجال أمام تدخل المعتقدات والقيم..
                         كخلاصة، يتبين أن مسألة الموضوعية قد مثلت إشكالية إبستيمولوجية، في حقل العلوم الإنسانية، تراوحت المواقف التي أفرزتها بين تصور وضعي يتمسك بضرورة إقصاء العوامل الذاتية مستلهما النموذج التجريبي ومتجاهلا الفوارق بين عالم الإنسان وعالم الأشياء؛ وبين موقف لا وضعي يؤكد على تعذر الموضوعية بدعوى الخصوصية متغافلا عن فعالية المنهج التجريبي في بعض المجالات الإنسانية( الاقتصاد والطب النفسي..).

المحور الثاني:         العلوم الإنسانية بين التفسير والفهم

           تكتسي عملية التفسير والتنبؤ أهميتها في مجال العلوم الطبيعية بوصفها علوما تستند إلى مبدأ السببية/الحتمية الذي يمكنها من صياغة قوانين ثابتة تفسر العلاقة بين الظواهر المدروسة...فهل يتحقق التفسير، بهذا المعنى ، في حقل العلوم الإنسانية ؟         
           إن تبني النموذج التجريبي جعل النزعة الوضعية تعتقد في قابلية الظواهر الإنسانية للتفسير السببي الذي يسمح بإمكانية التوصل إلى قوانين تمكن من التنبؤ على غرار ما يحدث في العلوم الطبيعية. وقد تجسد هذا الطموح عند الوضعيين في مجال السوسيولوجيا من خلال صياغتهم لقوانين لا تختلف - في اعتقادهم - من حيث دقتها عن قوانين الفيزياء (قانون الحالات الثلاث عند"أ - كونت" ،وقانون الإنتحار عند"إ - دوركايم"مثلا..).
        ونجد موقفا مغايرا عند الأنتربولوجي المعاصر "ك- ل-  ستراوس" الذي يؤكد فيه على صعوبة الوضعية الإبستيمولوجية للعلوم الإنسانية مقارنة مع علوم الطبيعة التي حققت تقدما كبيرا في تفسير الظواهر والتنبؤ بمسارها، حيث لم تقدم علوم الإنسان سوى تفسيرات فضفاضة وتنبؤات تعوزها الدقة. ومن ثم تظل هذه العلوم وسط الطريق متأرجحة بين التفسير والتنبؤ،دون أن تستطيع تحقيق تقدم كبير يؤهلها لبلوغ مستوى العلوم الطبيعية كما يستعجل منها الوضعيون ذلك.....غير أن هذه الصعوبات لا تعني تجريد العلوم الإنسانية من كل قيمة علمية، لأن المزاوجة بين التفسير والفهم من شأنه أن يسفر عن نتائج في هذا المجال كما يؤكد "ستراوس" في قوله :"إن العلوم الإنسانية ..يمكنها أن تقدم..نوعا من الحكمة التي تسمح بتحسين الأداء، لكن من غير الفصل النهائي بين التفسير والفهم".                                                                             
       كما أن التمييز الذي يقيمه "ف - دلتاي" بين "المادة" كموضوع للعلوم الحقة، و"الروح" كمجال خاص بالعلوم المعنوية أو"الروحية" جعله يستبعد المناهج الموضوعية في دراسة الظواهر الإنسانية. فإذا كانت الظواهر المادية الخارجية تقبل التفسير بسبب خضوعها لحتمية طبيعية صارمة، فإن الظواهر الإنسانية عبارة عن فعالية روحية تتميز عن المادة بتواجد الوعي وتدخل الإرادة مما يقتضي اعتماد الفهم في دراستها بدل التفسير الآلي. فالإتجاه الفينومينولوجي الذي ينطلق منه هذا التصور ينظر إلى الإنسان في بعده الروحي الباطني الذي يجعل منه واعيا ومريدا وعبارة عن تجربة كلية معيشية تستعصي على التجزيء الذي يتطلبه المنهج التجريبي ولا تقبل التفسير.
                    وعموما، إذا كان التفسير يمثل طريقة ملائمة من شأنها أن تسفر عن نتائج ترقى إلى دقة القوانين من منظور وضعي مأخوذ بنجاح المنهج التجريبي في علوم الطبيعة ؛فإن تصورات أخرى تركز على خصوصية الظاهرة الإنسانية التي تستوجب المزاوجة بين التفسير والفهم(ستراوس)، أو تعتبر الفهم بديلا للتفسير(دلتاي). 

المحور الثالث :                           نموذجية العلوم التجريبية

          لقد كان لحداثة العلوم الإنسانية أثر كبير في انبثاق مسألة النموذج العلمي الذي بإمكانه أن يحقق لها الشرعية العلمية..فهل ينبغي على هذه العلوم أن تسعى وراء تطبيق خطوات المنهج التجريبي بالصورة التي تحددت بها في العلوم الطبيعية، أم أن خصوصية الظواهر الإنسانية تستلزم البحث عن نماذج مغايرة ؟ 
         إذا كان مؤسسو الاتجاه الوضعي قد راودهم حلم تطبيق النموذج التجريبي في دراسة الظواهر الإنسانية كما تجسد ذلك في الدعوة إلى اعتبارها "أشياء" قابلة للملاحظة والقياس؛ فإن بعض الاتجاهات الإبستيمولوجية المعاصرة تؤكد على رفضها لهذا الموقف الذي يقوم على تطويع تعسفي للظاهرة الإنسانية تتحول معه إلى موضوع فيزيائي .  
                                                                                                
+طولرا /وارنيي: 
                                                                                                     
                يرى هذان الأنتربولوجيان أن وضعية العلوم الإنسانية أكثر تعقيدا لأن الواقع الذي تنكب على دراسته يتسم بكونه واقعا حيا وأقل انتظاما من عالم الطبيعة، الشيء الذي يفسر قلة وعدم دقة نتائج العلوم الإنسانية مقارنة مع العلوم الطبيعية. وهذا التباين يقتضي أن يكون النموذج العلمي الذي يلائم هذه العلوم أكثر تطورا من النموذج التجريبي حتى يمكن من الإحاطة بغنى الواقع الإنساني في مختلف أبعاده. وبناء على ذلك، لا ينبغي اعتبار التداخل بين الذات والموضوع في علوم الإنسان أمرا سلبيا بقدر ما هو مؤشر على ضرورة ملاءمة المنهج التجريبي مع خصوصية الظاهرة الإنسانية التي يصعب فصلها عن ذات الملاحظ ،خصوصا وأن العلوم الطبيعية نفسها أصبحت تعرف وضعية مماثلة في مجال الفيزياء المعاصرة التي لا يتم فيها استبعاد تدخل الملاحظ وتأثيره،ولو النسبي، في نتائج البحث.

+ "ميرلوبونتي" :  
                                                                         
               من منطلق الفلسفة الفينومينولوجية المعاصرة التي لا تعترف إلا بالذات الواعية كمصدر للمعرفة، يرفض"ميرلوبونتي" تطبيق  المناهج "الوضعية" على الظاهرة الإنسانية باعتبارها ظاهرة تتميز بخصوصيات تعبر عن تجربة الذات أو تجربة المعيش الكلي للإنسان. فالذات الإنسانية  تتقوم بالوعي والرغبة والإختيار، ولا تمثل منتوجا خالصا للطبيعة الفيزيائية يقبل التفسير بقوانين موضوعية ثابتة؛ بل على العكس من ذلك، تمثل الذات المصدر المطلق للمعرفة بدل أن تكون موضوعا لها..وعلى هذا الأساس يشكك"ميرلوبونتي" في قدرة النموذج التجريبي على النفاذ إلى المعنى العميق للوجود الإنساني نظرا لنزعته التجزيئية التي تقصي الذات بوصفها تجربة معيشية كلية يمكن إدراكها حدسيا لا عبر المعرفة الموضوعية التي تظل خارجية.
 وخلاصة القول، إذا كان المنظور الوضعي قد استلهم النموذج التجريبي في فترة اتسمت بالانبهار بنجاحات العلوم الطبيعية؛ فإن اتساع دائرة البحث في الظواهر الإنسانية، وكذا التطورات العلمية المعاصرة، جعل المواقف الإبستيمولوجية الراهنة تميل نحو التحرر من مرجعية هذا التصور بحثا عن نموذج ملائم لخصوصيات الظاهرة الإنسانية باعتبارها ظاهرة تقتضي الوعي بالتداخل بين الذات والموضوع(المنظور الأنتربولوجي)، أو ظاهرة تستوجب الرجوع إلى "الذات" بوصفها منتجة للمعرفة أو المعنى(المنظور الفينومينولوجي).






































Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire